محدش يقدر ينكر قيمة التكنولوجيا في رفع مستوى معيشة الناس وسهولة الأعمال وزيادة الانتاجية وتوفير الوقت وتقصير المسافات وقتل الملل، فوائد التكنولوجيا لا حصر لها، لكن برضه ليها أضرار، واضرار قاتلة، وقاتلة دي بالمعنى الحرفي مش مجرد مجاز.
كل يوم بتظهر فيه تكنولوجيا جديدة بتبقى خطوة جديدة لزيادة الخطر والمشكلة ان التطور التكنولوجي بقى سريع جدًا، كل يوم بينزل تليفزيون أحسن من اللي قبله، وبرضه تليفون أحسن من اللي قبله، وكمبيوتر أو لاب توب أحسن من اللي قبلهم، وكل جهاز بنتخلى عنه بيعتبر سم قاتل.
سجن التكنولوجيا
في البداية كده لو سرحت شوية وتأملت في طريقة حياة الناس زمان في بدايات القرن العشرين مثلًا، هيجيلك ذهول من إنعدام الاختراعات والابتكارات اللي أصبحنا بنستخدمها بشكل يومي النهارده، وأول حاجة هتقولها لنفسك الناس دي كانت عايشة إزاي، مفيش ثلاجة لحفظ الأكل، مفيش غسالات ترحمنا من المجهود، مفيش تليفزيون نتفرج عليه، مفيش تكييف مفيش مروحة، مفيش مواصلات سريعة، مفيش كمبيوتر مفيش إنترنت مفيش موبايل، مفيش أصلًا كهربا، حياة صعبة جدًا بل ممكن تكون مستحيلة عند بعض الناس، لكن الغريب إنك لو عرفت مشاكل الأجهزة الكهربية والالكترونية اللي أنت مش قادر تتصور الحياة من غيرها، مش بعيد تتمنى إنك ترجع وتعيش في الزمن اللي أنت متصوره صعب ده، تتمتع فيه بالبيئة البكر والهوا النضيف، والتربة الصحية الغير ملوثة، والحرية.
دلوقتي كلنا عايشين جوا سجن التكنولوجيا، لو الموبايل بتاعك باظ ومش قادر تجيب واحد غيره بسرعة، الدنيا هتسود في عينك لحد ما تجيب غيره، لو التكييف ولا المروحة وقفوا في الصيف هتحس إنك بتموت بالبطئ، وهنا بيظهر سؤال فلسفي، هل التكنولوجيا فعلًا سهلت حياتنا ولا استولت عليها؟، والمعضلة الأكبر مش المشكلة الفلسفية، إنما المشكلة الأكبر هي السموم اللى عمالين نبتكرها ونستنشقها، ونلوث بيها التربة كمان.
ليه نفاية الأجهزة الالكترونية خطرة؟
الأجهزة الالكترونية ليها عمر افتراضي وبعدها بتنتهي الحاجه لإستعمالها، سواء بقى عيوب مينفعش تتصلح، إنتهاء التكنولوجيا نفسها ومبقاتش مسايرة للعصر، أو جهاز قديم لدرجة تخليه مجرد نفاية، لكن نفاية في منتهى الخطورة.
الأجهزة الإلكترونية بيدخل في صناعتها عدد من العناصر والمواد الخطيرة، عندك مثلًا الرصاص بيتم استخدامه على نطاق واسع في صنع شاشات التليفزيون والأجهزة اللوحية، وهو مادة سمية خطرة لها أضرار على الجهاز العصبى والدورة الدموية والكلى، والكمبيوترات وأجهزة التحكم والبطاريات والشاشات والأجهزة الطبية والموبايلات وغيرهم بيحتوا على الزئبق واللي يعتبر مادة خطيرة على الجهاز التنفسي والجلد، والزرنيخ موجود في المصابيح الكهربية أحد مسببات السرطان، وعندك الكادميوم بيدخل في صناعة المكثفات ورقائق التوصيل وصناعة الأحبار ويعتبر مركب ثقيل وسام، والليسته طويلة، عندك كتير من العناصر السامة والضارة لأجهزة الجسم واللي زي الكروم والزنك والبريليوم والباريوم والفوسفور، وغيرهم، كلها عناصر بتدخل في صناعة المكونات والدوائر الالكترونية، والمشكلة إن العناصر دي مش بتتحلل، وده معناه إن مينفعش نتخلص منها بالطريقة التقليدية اللي بنتخلص بيها من النفايات العادية عن طريقة التكسير والدفن مثلًا؛ لأن دفن النوع ده من النفايات هيخلي المواد الخطيرة دي تتسرب للمياه الجوفية، وتتسبب في أمطار حمضية وتتلف التربة وتخليها غير صالحة، ولو فيه نبات نما بالقرب منها هيكون ملوث وهياكل منه الإنسان والحيوان وتتراكم داخل أجهزتنا السموم القاتلة مع مرور الوقت.
وكمان مينفعش نتخلص منها عن طريق الحرق، وإلا تصاعدت منها انبعاثات غازية سامة، زي أول اكسيد الكربون وأول اكسيد النحاس وأول اكسيد الصوديوم وغيرها، بل إن حرق النوعية دي من المواد ممكن يؤدي لإنفجارات، كتير من المكونات زي البطاريات مثلًا بتنفجر مع تعرضها للحرارة العالية، يعني لابسين النفايات دي لابسنيها، والمشكلة إن النفايات دي بتزيد بسرعة كبيرة جدًا متناسبة مع سرعة التكنولوجيا.
العالم حاليًا بينتج حوالي خمسين مليون طن سنويًا من النفايات الالكترونية، المشكلة بقى إن أكبر الدول المستهلكة للأجهزة الالكترونية والكهربائية زي الولايات المتحدة الأمريكية والصين معندهمش قوانين فيدرالية صارمة تمنعهم من التخلص من نفاياتهم عن طريق الشحن والتصدير، وده حول الدول الأسيوية والإفريقية لمقالب نفايات للدول دي.
زي ما الأجهزة والالكترونية بتحتوى على مواد وعناصر ضارة، إلا انها كمان بتحتوي على عناصر ثمينة زي البلاتين والذهب والفضة والنحاس، وبالتالي بعض شركات بير السلم بتحاول تستخرج العناصر دي بوسائل غير آمنة، وبيكون لها أضرار على الناس والبيئة، وبالرغم من بعض الجهود الدولية المبذولة للحد من مشكلة تصدير النفايات زي معاهدة بازل “Basel Convention” سنة 1989، واللي فيها اجتمعت مجموعة من الدول لتنظيم عملية تصدير النفايات الالكترونية وتأكد على التخلص منها بطريقة صديقة للبيئة، إلا إنه مع ذلك اتضح إنها جهود غير مثمرة.
واستمر التلاعب والتزوير لخروج ملايين الأطنان من البلاد ويرموها في البلاد الفقيرة، وده اللي خلى منظمات بيئية كتير أشهرهم منظمة “جرين بيس Green Peace” تنادي بالحظر الكامل على التصدير وبيقول “جيم باكيت Jim Puckett” إنه أثناء عمله في جرين بيس تم مراقبة نشاطات الولايات المتحدة الأمريكية في التخلص من النفايات الالكترونية، والمنظمة نجحت في زرع أجهزة تتبع لمعرفة طريق الشحنات، وتم الكشف عن ملايين الأطنان بتخرج من الولايات المتحدة سواء بطرق شرعية أو غير شرعية وملايين الأطنان دي كلها غير آمنة.
وقال “كيسى هارل Casey Harrell” من نفس المنظمة: “إن من المضحكات المبكيات إنه مع تتبع وصول النفايات إلى غانا ونيجريا في إفريقيا تم العثور على بعض أجهزة الكمبيوتر التابعة لوكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الأمريكية”، يعني وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الأمريكية باعته النفايات الالكترونية بتاعتها تترمي في بلد فقيرة.
وتابع هارل أستنكاره وقال إنه تم العثور على حالات مشابهة خاصة بالنفايات دي في الصين والهند، وبيقول إنه إذا كانت وكالات حماية البيئة نفسها مش قادرة تتصرف في أجهزتها إزاي باقى المؤسسات اللي زي المدارس والجامعات والمستشفيات هتتصرف، المشكلة كبيرة ومش عارفين إيه الحل، نستغنى عن التكنولوجيا خلاص ونرجع لبدايات القرن العشرين، المفروض لو مش قادرين نتعامل مع مشكلة صنعناها بنفسنا يبقى الأفضل نحافظ على حياة الناس، لكن لو مصرين على الاحتفاظ بالتكنولوجيا ووسائل الرفاهية يبقى لازم نواكب التطور ده.
ثقافة الاستهلاك والحلول
فيه حلول كتير إحنا كمستخدمين نقدر نعملها، فيه دراسات كتير اتعملت بتقول إن عدد أجهزة المحمول المباعة في دول ما أكتر من عدد أفراد الدولة نفسها، يعني كل واحد في الدولة عنده موبايل واتنين وتلاته، وده مش في التليفونات بس ده في بعض الأجهزة الشائعة الاستخدام زي أجهزة الكمبيوتر وكافة الأجهزة اللوحية، وغيرها، فلازم تتوفر ثقافة اقتصاد في الاستهلاك زي ما توفرت ثقافة الشراء، وكمان لازم الشركات المنتجة ترجع للاهتمام بمسألة الجودة حتى لو كان على حساب السعر، المنتج اللي جودته أعلى وإن كان أغلى إلا إن حياته أطول وهيقلل بالتبعية النفايات الالكترونية.
فعلى سبيل المثال شركات التدوير الكبيرة زمان كانوا بيقدروا يستخلصوا كيلو جرام من الذهب من كل عشرة آلاف جهاز كمبيوتر، أما دلوقتي فبيستخرجوا كيلو الذهب ده من مائة ألف جهاز، وده خلى أعمال التدوير تقل والمرتبات في المجال ده برضو تقل.
ومن جملة الحلول التانية اللي ممكن نعملها إن أحنا نطور في السوفت وير أكتر من الهارد وير، يعني بدل ما أحنا كل سنة أو 6 شهور عايزين جهاز جديد عشان يبقى أحدث وأسرع ممكن الشركات الكبيرة تبدأ تطور السوفت وير بتاعها أكتر عشان يشتغل بالامكانيات نفسها، وبدل ما نحتاج إن أحنا نجدد كل 6 شهور ولا سنة، نجدد كل 2 و 3 و 4 سنين كمان، وده طبعًا ناهيك عن سن قوانين صارمة ومعاهدات دولية تنظم الاستهلاك والتصدير.
وأخيرًا أعظم وأفضل الحلول هو التوسع في عمليات تدوير الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، ونقصد بالتوسع هنا أنشاء مصانع أكتر للتدوير وتدريب مهني للعاملين بالقطاع نفسه أكتر بكتير، ومن أكتر الدول اللي قدرت تتحكم في مشاكل النفايات الالكترونية هي ألمانيا وبعدها سويسرا، واللي قدروا يعملوا إعادة تدوير بنسبة 100% من نفايتهم، لكن المشكلة عالميًا مازالت قائمة، والدراسات بتشير إن العالم بيقدر يدور حوالي 20% فقط من النفايات الكهربائية والالكترونية الموجودة، والـ 80% التانيين بيتم إعدامها بطريقة غير آمنة بتحصد أرواح أو بتشكل قنابل موقوتة لو متمش السيطرة عليها، نسبة إنتاج الأجهزة الجديدة كبير وأعداد الناس في زيادة مستمرة.
والحقيقة مشروع التدوير في حد ذاته مشروع مفيد جدًا في توفير فرص عمالة جديدة في مجال مرتبط بالعصر الحديث، يعني مجال هيفضل ينمو في المستقبل، وفيه بلاد زي سويسرا بتستورد القمامة عشان تعملها إعادة تدوير وتنتج صناعات بلاستيكية ومشاريع طاقة وتدفئة، وبالرغم من أن أغلب دول العالم ومنهم بعض البلاد العربية شغالين في إعادة تدوير النفايات الالكترونية إلا أن سرعة الاستهلاك بتخلي نسبة النفايات أعلى من قدرة المصانع، وعلشان كده لازم الأفراد والحكومات والمؤسسات القانونية يتكاتفو مع بعض لحل المشكلة اللى بتتصاعد يوم بعد يوم وإلا المشكلة هتتحول لوباء.