بتتمتع نيوزيلندا بمجموعة خيالية من المناظر الطبيعية اللي صعب تشوفها في أي مكان تاني في العالم، بس على خلاف الجبال والبحيرات وغيرها من المعالم فأجمل معالم البلاد وواحدة من أروع الأماكن السياحية على مستوى العالم كله، مخفية عن العيون؛ ولازم تغامر بنفسك عشان تدخل عالمها، في عمق الأرض نفسها، ولو كانت نيوزيلندا ممكن تنقل زوارها لعالم خيالي من خلال موقع تصوير سلسلة أفلام Lord of the rings و The hobbit المعروف باسم Hobbiton؛ فمجموعة الكهوف قادرة على نقلك لعالم أكثر روعة وخيال من عالم الروائي الإنجليزي J. R. Tolkien في مغامرة من الصعب تنساها العمر كله، فــحضر شنطتك وادعك عينك كويس لأن اللي هتشوفه ممكن يخليك تشك في نفسك ما بين كونه حقيقة، أو خيال.
كهوف وايتومو
تخيل نفسك بتطفو في نهر تحت الأرض والسقف والجدران حواليك بيزينها توهج أضواء طبيعية؛ وكأنها ألاف المصابيح المرصوصة في أرجاء المكان بألوان زرقاء وخضراء، بس الحقيقة ان مافيش مصابيح ولا فيه أي أضواء صناعية على الإطلاق ولكنها ببساطة، سحر الطبيعة داخل كهف وايتومو المضئ.
تقع كهوف وايتومو المضيئة داخل أراضي الجزيرة الشمالية من نيوزيلندا على بعد حوالي 200 كم جنوب مدينة “أوكلاند Auckland”، وهي عبارة عن نظام معقد بيضم 3 كهوف؛ أطولهم وأعقدهم على الإطلاق هو كهف “رواكُري Ruakuri” اللي تم اكتشافه بالصدفة من حوالي 500 سنة عن طريق أحد سكان “الماوري Māori”، والكهف اسمه جي من لغة الماوري ومعناه” كهف الكلبين” ونابع من عثور السكان المحليين على كلاب برية عايشين في مدخل الكهف، وأكتر ما يميزه هي التشكيلات والزخارف العجيبة للأحجار الجيرية داخله بجانب احتوائه على شلال صغير على عمق متر ونص تقريبًا، بخلاف إن الكهف داخله حفريات بيرجع عمرها لـ 30 مليون سنة.
أما الكهف التاني من نظام كهوف وايتومو هو كهف “أرانوي Aranui” وهو أحدث الكهوف اللي تم اكتشافها عن طريق أحد شباب الماوري في عام 1910، وبيضم واحد من أكتر الهوابط المعلقة بطول يصل لـ 6 أمتار ووزن يقدر بأكتر من 1 طن تقريبًا، وبخلاف الحفريات الموجودة في كهف “رواكري” واللي بيرجع عمرها لـ 30 مليون سنة، فكمان الهوابط الموجودة في كهف “أرانوي” بتديك فكرة مبسطة عن عمر الكهوف نفسها؛ لأن الهوابط ده بتنمو في المتوسط بمعدل 0.13 ملم سنويًا أو سنتيمتر مكعب تقريبًا كل 100 سنة.
اكتشاف الكهف المضئ
أما عن اكتشاف أروع كهوف وايتومو على الإطلاق إن ماكنش أروع كهوف العالم؛ فتم اكتشافه في أواخر القرن الـ 19، وبالرغم ان سكان الماوري كان عندهم علم بوجود الكهف زيه زي باقي الكهوف قبل مئات السنين من اكتشافه، إلا ان مافيش حد فيهم أخد خطوة استكشاف الكهف نفسه من جوه، وفي عام 1887 قرر أحد أهالي الماوري اسمه “طاني تنيرو Tane Tinorau” بصحبة الماسح الإنجليزي او عالم مسح الأراضي “فريد ماك Fred Mace” في القيام ببعثة استشكافية أو مغامرة مثيرة لتتبع المكان اللي بتختفي فيه مياه نهر وايتومو في أعماق الكهف، وبناءًا عليه طلع الإتنين على الكهف، واستعانوا بالشموع لإرشاد نفسهم في ظلام الكهف الدامس، لكن كان فيه مفاجأة في انتظارهم هتغنيهم عن ضوء الشموع أو عن أي وسيلة إضاءة ممكن يحتاجوها، فمع حركة الطوف شوية بشوية في الظلام الدامس بدأوا يلاحظوا متاهة من المغارات والأنفاق المضاء جدرانها وسقفها بضوء متوهج من الأزرق والأخضر، وبعد عدة زيارات متتالية للكهف استطاع “طاني تنيرو Tane Tinorau” اللي كان في صحبة الماسح الإنجليزي في رحلتهم الأولى بالكهف؛ انه يكتشف بمفرده مدخل لجزء علوي بالكهف أصبح هو الأن المدخل الرئيسي للزوار، وفي ظرف أسابيع وبدأت سمعة نظام الكهوف في الانتشار والزوار يحضروا لمشاهدة الكهف المضئ، وفي الوقت ده كان تنظيم دخول الزائرين بيتم عن طريق السكان المحليين من “الماوري” اللي بيساعدوا الزوار في اكتشاف الكهف المضئ مقابل أجر زهيد، لكن مع زيادة الإقبال على الكهف قررت الحكومة النيوزلندية في أوائل القرن العشرين إنها تفرض سيطرتها على الكهف وتتولى إدارته وتنظيم الرحلات ليه، والبعض بيشوف ان الحكومة تحايلت على أهل الماوري في الحكاية ده بشكل أو بآخر، وفي عام 1910 تم بناء فندق “كهوف وايتومو” لاستضافة السائحين أثناء فترة زيارتهم للكهوف، وحاليًا أصبح فيه عدد كبير من مكاتب وشركات السياحة بتوفر لعملائها رحلات لزيارة الكهوف والاستمتاع برؤية عالمها الخيالي، وبتتراوح أسعار الزيارة من 40 دولار لـ 112 دولار للفرد أو ما يعادل 650 لـ 1750 جنيه للفرد، والأسعار ممكن تزيد أو تقل عن كده حسب الجهة اللي هتحجز فيها وبرنامج الزيارة نفسه.
زيارة كهوف وايتومو
وفيه طريقتين تقدر تستمع من خلالهم باستكشاف الكهوف؛ الأولى هي عن طريق محبي رياضية الـ Rafting وهي الطريقة الأكتر إثارة للزوار الباحثين عن المغامرة، وهنا بترتدي زي سباحة وتطفوا في مجرى المياه داخل الكهوف وانت قاعد في عوامة أو طوق، وفي عام 2004 وصل عدد الزوار اللي استخدموا الطريقة ده في استكشاف الكهوف لأكتر من 30 ألف شخص، أما بقى لو مش عايز تتبل وبرده تحظى بمغامرة مثيرة، فأنت بتدخل وسط مجموعة صغيرة بتتكون من 8 لـ 11 فرد بصحبة مرشد سياحي بياخدكوا من المدخل الضيق لنفق في الجزء العلوي من الكهوف بالمستوى الأول منها.
والكهوف مكونة من 3 مستويات مرتبطة مع بعضها بواسطة عمود مصنوع من الحجر الجيري، وفي الأمتار الأولى بيكون السقف منخفض جدًا فوق راسك، لكن بمجرد ما بتمشي شوية بتلاقي المكان وسع قدامك وظهرلك مجموعة ضخمة من المغارات، والمستوى التاني منها بيُطلق عليه قاعة الولائم؛ وهو المكان اللي اعتاد الزوار الأوائل للكهف على الأكل بداخله واستهشد الباحثين من أثار الدخان على الجدران والسقف في التصديق على المعلومة، وفي النهاية بتتجه مع المرشد في رحلة بالقارب في أعماق الكهف ويشرحلك أصله ونشأته والسبب في إضاءته بالشكل العجيب ده.
نشأة الكهوف وتشكيلات الأحجار الجيرية
كهوف وايتومو مش هي الكهوف الوحيدة في المنطقة، فالنشاط البركاني والجيولوجي أدى لظهور ما يقرب من 300 كهف، لكن نظام كهوف وايتومو هو الأشهر والأكثر جذبًا للسياح في نيوزيلندا على الإطلاق بــ 400 ألف زائر سنويًا، وتشكيلات الأحجار الجيرية في الكهوف حصلت في الوقت اللي كانت فيه المنطقة مغمورة تحت مياه المحيط من ملايين السنين.
وبيتكون الحجر الجيري في الأساس من عظام الأسماك والشعب المرجانية المتحجرة والأصداف وغيرها من المخلوقات البحرية، وعلى مدار ملايين السنين اتجمعت الصخور المتحجرة ده فوق بعضها واضغطت عشان تكون الحجر الجيري، أما عن الكهوف نفسها؛ فبدأ تشكيلها مع ارتفاع الأحجار الجيرية عن قاع المحيط، ومع وتعرضها للهواء حصلت شقوق وتصدعات سمحت بتدفق المياه ما بينها وإذابة أجزاء من الحجر الجيري، وبمرور الزمن بدأت الكهوف تاخد شكلها الحالي بما فيها الصواعد والهوابط الأشبه بالأعمدة والتشكيلات الغريبة اللي بتزين الكهف بسبب الماء المتساقط من السقف والمتدفق على الجدارن، واللي بتحلل أجزاء من الأحجار الجيرية وبتسيب بعضها الآخر بتشكيلات فنية، وهي السبب ورا شعور البعض وكأنه في متحف قام بتشكيل أعماله مجموعة من النحاتين المهرة.
السر في إضاءة كهف وايتومو بيرجع لما يسمى بالضيائية الحيوية أو Bioluminescence، وهي الطريقة اللي بتنتج بيها عدد من المخلوقات الحية الضوء بدون أي مصدر خارجي للطاقة، والخاصية ده بيتمتع بيها عدد متنوع من الحيوانات زي أسماك أبو الشص anglerfish وقناديل المشط comb jellies والخنافس المضيئة وسراج الليل وبعض أنواع الفطريات والديدان زي الديدان المتوهجة، والأخيرة هي السر ورا الإضاءة العجيبة لكهف وايتومو، فالألاف من الديدان المتوهجة بتتخذ من الكهف مأوى ليها، وهي عبارة عن يرقات لنوع من الحشرات الطائرة اسمه Fungus gnats واسمها العلمي أقرب لتعويذة في روايات هاري بوتر بالضبط وهو “أراكنوكامبا لومينوسا arachnocampa luminosa”، والحشرات ده في طورها البالغ مافيهاش أي نوع من التشويق؛ لكن وهي مازالت يرقات بتكون في منتهى الإثارة، اليرقات ده طولها أقرب لعود الثقاب أو الكبريت وفي ضوء النهار، مش هتلاقي أي حاجة ممكن تشدك ليها على الإطلاق، لكن في الظلام، بتتوهج بلون أخضر مزرق.
وعملية الضيائية الحيوية بتم عندهم من خلال تفاعل كيميائي بيحصل في عضو مميز عندهم موجود في المؤخرة، وبيشترك في العملية ده الاكسجين ومركب كيميائي اسمه لوسيفرين Luciferin وبينتج هنا الضوء العجيب اللي بتتوهج بيه اليرقات، والضوء ده بتستفيد بيه اليرقات في الأساس لاجتذاب الحشرات ناحيتها والتغذي عليها، وبتعيش الديدان المتوهجة على الأسقف والجدران لمدة تتراوح بين 6 شهور وسنة، وبتعتاد على الصيد بطريقة مثيرة جدًا، فهي بتطلق أو بتدلدل خيط من الحرير من أعلى السقف اللي هي فيه وكأنه صنارة سمك، والخيط ده بيبقى مغطى بمخاط لزج وهنا يستخدموا خاصية الضيائية الحيوية ويتوهجوا عشان يجذبوا الحشرات للخيط أو للصنارة، وبالمناسبة فحميتهم الغذائية مش بتقتصر فقط على الحشرات ولكنهم ممكن ياكلوا بعضهم البعض.
وأخيراً كهوف وايتومو بتقدملنا مثال عجيب عن الطبيعة وقدرة الله عز وجل في نظام بيئي وجيولوجي تعجز الكلمات عن وصفه، أنت بتتكلم عن مكان في جوف الأرض وفي أخر موقع ممكن يفكر الانسان انه يتواجد فيه، وفي مكان المفترض انه ميت مايعرفش غير الظلام الدامس اللي بيخيم على أرجاءه وتتوقع انه بيخلو تماماً من أي شكل من أشكال الحياة، لكن وعلى النقيض، نكتشف إنه بينعم بواحدة من أروع الصور الطبيعية في العالم وجدرانه بتشع بالضوء من ملايين السنين، ضوء من قلب الظلام، ضوء من 30 مليون سنة.