الحرب العالمية الأولى سنة 1914 كان ليها أسباب كتير جدًا، إلا إن أهم الأسباب اللي ولعت الدنيا كان تحذير القوى الأوروبية لألمانيا القوة الجديدة وقتها من مساندة إمبراطورية النمسا والمجر في صراعها مع الصرب، أما الحرب العالمية الثانية فبرضه مع تعدد أسبابها، إلا إن السبب الرئيسي في اشتعالها كان تحذير القوى الأوروبية لألمانيا للمرة الثانية بعدم التدخل في شئون بولندا، واليوم وبعد 77 سنة من أكبر مآساة إنسانية يعيد التاريخ نفسه، وبتخالف روسيا كل تحذيرات القوى الأوروبية والعالمية، وبتتدخل بقوة السلاح عشان تغزو أوكرانيا، والكل بيسأل غصب عنه هل دي بداية حرب عالمية ثالثة، ولا إيه الحكاية؟

إندلاع الحرب

في فجر يوم 24 فبراير 2022 انطلقت القوات الروسية بنية غزو أوكرانيا، وعلى الرغم من إن الغزو كان متوقع من كل المُحللين، إلا إن عملية تعميق العمليات ووصول القوات الروسية لضواحي عاصمة أوكرانيا مدينة كييف، وده كان بمثابة الصدمة لجميع المحللين، واللي بدأوا بالفعل يحسبوا إحتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة، وفي نفس الوقت تكون الحرب النووية الأولى ويمكن الأخيرة في التاريخ، لكن السؤال دلوقتي إيه اللي خلى روسيا تعمل كده، وأيه أهمية أوكرانيا لروسيا أو لغيرها من الدول؟ والحقيقة إن الاجابة على الأسئلة دى وغيرها كتير بيفرض علينا إننا نقول الحكاية كلها من أولها.

أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا

من المشهور عند الأغلبية إن جمهورية أوكرانيا كانت واحدة من الجمهوريات اللي شكلت الاتحاد السوفيتي القديم، وكانت تُشكل مع روسيا أهم جمهوريتين في نفس الإتحاد، لكن اللي غير مشهور هو إن أوكرانيا كانت دائمًا وأبدًا مع روسيا من بداية تاريخهم، بل إن أوكرانيا كانت من الأصل هي السبب في ولادة دولة بحجم روسيا الحالية، وبيرجع السبب إلى أن إمارة “كييف روس Kievan Rus” السلافية، اللي تأسست في القرن التاسع الميلادي على أراضي أوكرانيا الحالية، كانت هي الأصل اللي تَكون منه الدولتين الحاليتين، واستمر الترابط والوحدة بين الدولتين على مدار التاريخ خلال كل الفترات، واللي شملت الإمبراطورية الروسية القيصرية، ومن بعدها إمبراطورية الاتحاد السوفيتي، وغير الترابط السياسي والتاريخي الشعبين الروسي والأوكراني ينتمون لنفس العرق السلافي، وبيتكلموا نفس اللغة تقريبًا، بالإضافة بقى إنه تقريبًا يُكاد يكون كل مواطن أوكراني له قريب ولو من بعيد من الشعب الروسي.

أما على المستوى الاقتصادي والجغرافي، فأوكرانيا بالنسبة لروسيا تُعتبر المنفذ الرئيسي للوصول للبحر الأسود ومنه للبحر المتوسط والعالم كله، وبالتالي بتعتبر أوكرانيا بالنسبة لروسيا بمثابة المعبر للسوق العالمي، بالإضافة إلى أن الحدود الروسية الأوكرانية البرية كلها تُعتبر أرض مستوية وخالية من الحواجز والموانع الطبيعية، بمعنى أن دولة أوكرانيا نفسها تُمثل بالنسبة لروسيا العمق الإستراتيجي الذي يوفر لها الأمن، ولو حصل وتم فقد أوكرانيا سيكون الطريق للأراضي الروسية مفتوح، وللسبب ده عند استقلال أوكرانيا بعدها سنة 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي جاءت بمثابة صدمة لم تستوعبها روسيا حتى اليوم، ولو عرفنا كمان إن مسألة تفكك الاتحاد السوفيتي لم تكن عملية سهلة أو مثلًا كان في إجماع عليها هيكون مفهوم إن حكاية استقلال أوكرانيا طلعت من عين ناس كتير ويمكن يكون أشهر الناس هو الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين.

سؤال مهم، أيًا كان الترابط والتاريخ والحكاية دي كلها، المهم إن الدولتين انفصلوا والاتحاد السوفيتي اتفكك وراح لحاله والموضوع بقى قديم، إيه اللي جد وولع الدنيا تاني؟

جذور الصراع

الحقيقة إن اللي جد وولع الدنيا تاني مش حاجة واحدة بس، إنما هي سلسلة ألاعيب ومشاكل سياسية تراكمت من بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن إحنا نكتفي بعرض بعض المشاكل اللي بدأت مع تفكك الاتحاد السوفيتي، ولازم نراعي أننا نكون فاهمين إن وجهات النظر السياسية تحمل أوجه عديدة لدرجة إن سياسة البلد الواحد نفسه، وبسبب كدا يكون من الصعب جدًا الفصل أو الحكم لصالح طرف من الأطراف، وعمومًا القصة تبدأ بادعاء روسيا إن الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف أخذ وعود من المعسكر الغربي بانتهاء الحرب الباردة وبناًء عليه يتم وقف تمدد حلف شمال الأطلسي الشهير بحلف الناتو، لكن مع الوقت ثبت أن القوى الغربية لم تلتزم بالوعد، واستمر الحلف في ضم دول جديدة، وكان في كل سنة بيقرب أكثر فأكثر من الأراضي الروسية.

وبعد ما كانت المسافة بين روسيا نفسها والغرب الأوروبي حوالي 2000 كيلومتر وصلت حاليًا لأقل من 150 كلم وده اللي حصل تحديدًا مع انضمام بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة للحلف، وطبعًا ده في رأي روسيا يُهدد الأمن والسلام المتفق عليه، أما حجة المجتمع الغربي كانت هي التأكيد على أن الاتفاق الشفهي مع ميخائيل جورباتشوف فكان الأصل فيه هو انتهاء الحرب الباردة وهو الهدف اللي تحقق بالفعل واللي اثبتته عشرات المواقف، والمعاملات بين الغرب كله ودولة روسيا، أما بالنسبة لمسألة ضم دول جديدة لحلف الناتو، فالموضوع متعلق بشروط حطتها الدول الأعضاء، واللي في حالة توفرها يتم قبول العضو الجديد، ومن غير المُتاح بحكم القانون الدولي إنه يتم رفض طلب دولة معينة إنها تنضم للحلف لأ وإيه؛ لمجرد أن روسيا هتزعل، وبناءًا على كده فمن وجهة نظر الغرب، وعلى رأسهم أمريكا طبعًا روسيا عليها أنها تحترم حق الدول في إختيار السياسة المناسبة ليها، وطبعًا روسيا كانت في الوقت ده لسه في مرحلة إعادة البناء، فاضطر النظام الروسي إنه يتحمل الضغط وسياسة فرض الأمر الواقع.

بدء الصراع المُسلح

لما روسيا شمت بس نوايا أوكرانيا في الانضمام لحلف الناتو خربت الدنيا؛ ففي سنة 2013 اندلعت مظاهرات واحتجاجات على الرئيس ” فيكتور يانوكوفيتش Viktor Yanukovych” الموالي لروسيا، وأدت الاحتجاجات في النهاية لعزل الرئيس وهروبه لموسكو، ومن بعدها تم تنصيب حكومة توالي الغرب لتسهيل عملية انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، فكان الرد الروسي بغزو شبه جزيرة القُرم سنة 2014، وكانت الحجة الروسية هي مساعدة الأغلبية الروسية اللي تسكُن الجزيرة، واستمرت كمان روسيا في مساعدة المعارضين للحكومة الجديدة، واللي وصل بيهم الحال للانفصال وإقامة جمهوريتين جُدد في شرق أوكرانيا، ومع ظهور دولتين انفصاليتين جُدد اتعرفوا بأسم “دونِتسك و لوهانسك Donetsk and Luhansk” بدأت الحرب الأهلية في أوكرانيا بين الانفصاليين اللي بتساعدهم روسيا وبين الحكومة الأوكرانية اللي بتساعدها القوى الغربية.

واستمر الصراع اللي أدى لتشريد أكثر من مليون أوكرانيا، ومقتل وإصابة حوالي 30 ألف، لكن في النهاية ومع عدم قدرة أي طرف إنه يُنهي النزاع لصالحه وصل الجميع لاتفاق لوقف إطلاق النار أتعرف باتفاق Minsk 2015.

تجدد الاشتباكات

طبعًا مع الهدوء النسبي اللي حصل من بعد اتفاقية Minsk في سنة 2015 يكون السؤال البديهي هو: إيه اللي حصل تاني مش كانت اتفضت؟
والحقيقة أن الإجابة الوحيدة الموضوعية هي الإجابة اللي بتعرض وجهتين النظر، فعملية إشعال الحروب وعملية الخلافات السياسية بصورة عامة بتكون عمليات الفصل فيها مستحيل، بل إن السياسيين بيقولوا إن مفيش أصلاً حد مُخطئ، وده ببساطة لأن كل طرف بيدور على مصلحته وعموما بالنسبة للرواية الأوكرانية الغربية تقول إن الأقمار الصناعية رصدت تحركات لحشود عسكرية روسية ضخمة خلال شهر ديسمبر 2021 بالقرب من الحدود الأوكرانية، وهو طبعا التصرف اللي يُنبئ عن نوايا روسيا السيئة في إعادة الغزو والهجوم، أما الرواية الروسية فبتقول إن الحشود العسكرية بدأت بعد ما أطلقت روسيا التحذيرات لحكومة أوكرانيا اللي بتنفذ عمليات إبادة جماعية لكل المُوالين لروسيا، ومن رأي روسيا إن ده خرق للاتفاق اللي نص على عدم تزويد روسيا لمناطق الحكم الذاتي بالسلاح في مقابل أن أوكرانيا تسيب الناس في حالها، ومن ديسمبر اللي فات بدأت التوترات تشتعل من تاني، وطبعًا بدأت الاتهامات المتبادلة والتراشقات، وأعلن رئيس أوكرانيا إنه مش راضي عن أي فقرة من فقرات إتفاق Minsk، أما بوتين فسخر منه في وسائل الإعلام وقاله مش مهم تكون راضي ولا غير المهم إنك تنفذه، وكمان أضاف بوتين إن روسيا معندهاش ضمانات تقدمها بل إن الغرب هو اللي عليه يقدم ضمانات لأن ببساطة الغرب هو اللي بينشر صواريخه بالقرب من الحدود الروسية، وطالب بوتين بتوقيع كتاب ينص على التعهد بعدم ضم أي دول جديدة لحلف النيتو سواء أوكرانيا أو غيرها، أما الغرب فكان رده إن أوكرانيا أساسًا لا تُلبي معايير الإنضمام لحلف النيتو، واستمرت حرب التصريحات والمطالبات من غير تقدم، وكان جميع المُحللين عارفين إنها مسألة وقت قبل ما تبدأ روسيا عملية الغزو، لكن الحقيقة اللي كان في ذهن المعسكر الغربي إن الروس سيكتفو بتثبيت أقدامهم في مناطق الحكم الذاتي الموالية ليهم.

عملية 24 فبراير

في فجر يوم 24 فبراير 2022 بدأ الهجوم الروسي رغم كل التحذيرات من العواقب الخيمة، وكانت المفاجأة إن الهجوم كان عن طريق الجو والبر والبحر، وكان من الواضح إن الهجوم عنده نية الاحتلال الكامل لأوكرانيا، وفي نفس الوقت ظهر الرئيس بوتين على التليفزيون وقال إن الجيش الروسي عازم على نزع سلاح أوكرانيا، لكن أكد أن العملية هيكون هو ده هدفها النهائي، وإن الاحتلال مش هو الهدف بأي حال من الأحوال، لكن في نفس الوقت هو بيحذر أي طرف من الأطراف الخارجية يحاول إفشال الهجوم، وبالفعل بدأت القوات الروسية تتقدم باتجاه العاصمة كييف وسط مقاومة أوكرانية شرسة غير متوقعة.

ردود الفعل

لا شك إن العالم كله يعيش حاليًا لحظات من الترقب والقلق والخوف من تطور الأزمة لحرب عالمية نووية، لكن مبدئيًا اللي إتضح إن الجيش الأوكراني يُحارب لوحده حتى الآن، والرئيس الأوكراني زيلينسكي صرح بأن العالم تركه يُحارب وحده، أما على الصعيد الدولي فرغم عدم التدخل العسكري حتى الآن إلا إن العقوبات بدأت تنهال على روسيا، فمن ناحية الجيران، صرحت المفوضية الأوروبية بأنها تستعد بأقصى حزمة من العقوبات على الإطلاق، وحتى الأحداث الرياضية اللي كان مُخطط إقامتها على الأراضي الروسية تم نقلها، أما أمريكا مبدئيًا قطعت فورًا كل التعاملات البنكية والمالية مع روسيا، وانضمت كندا واستراليا، لكن مع ذلك الغرب حتى الآن لم يحجب روسيا من تعاملات السويفت التي تُستخدم في الدفع الدولي، بمعنى أن حظر التعاملات البنكية لم يكن شامل، وهو الأمر الذي أدى إلى انزعاج الجانب الأوكراني.

وعلى الجانب الشعبي اندلعت مظاهرات على الأراضي الروسية نفسها احتجاجًا على الحرب، وهو الأمر الذي أدى لاعتقال 1700 شخص حتى الآن حسب التقارير الإخبارية، أما على المستوى الشعبي الأوكراني، ازدحمت الطرق السريعة ووقف المرور بسبب هروب كثير من السكان خارج أوكرانيا، بينما اللي عجز عن الخروج من أوكرانيا، لجأ لمحطات مترو النفاق القديمة للاختباء من عمليات القصف، وعمومًا على حسب الذي يعتقده المُحللين السياسيين، إنه بنسبة كبيرة الموضوع هيتلم؛ لأنه من شبه المستحيل إن الغرب يتورط في حرب نووية لأجل عيون أوكرانيا، وإنه غالبًا سوف يتم الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية، لكن تبقى المشكلة في روسيا نفسها، فهل النظام الروسي هو كمان هيحكم العقل، بل أن السُكون الدولي هيشجع دول مثل الصين واللي عينها على تايوان.

والحقيقة إن الاضطرابات تَعم على العالم كله، ومحدش بقى عارف بكره مخبى إيه، وهي اللحظات اللي بيرجع فيها الإنسان لنفسه، ويفتكر نعمة كبيرة مش بيكون حاسس بيها وهي نعمة الأمن، ومثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
« مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا»