توجد مقولة للكاتب والدبلوماسي والشاعر الأمريكي”هنري فان ديك Henry van Dyke” يقول فيها: “الوقت بطئ جدًا لأولئك الذين ينتظرون، وسريع جدًا لأولئك الذين يخافون، وطويل للغاية لأولئك الذين يحزنون، وقصير لأولئك الذين يفرحون”، والحقيقة تلك المقولة واقعية بشكل كبير؛ لأن إحساسنا بالوقت يكون بالفعل مختلف من مرحلة للثانية ومن حالة لحالة، ويمكن الشئ المتفق عليه بيننا هو إن إحساسنا أصبح بالوقت يمر بسرعة كل ما نتقدم في العمر، ومن منا لم يسأل نفسه تلك الأسئلة من قبل مثل” ايه ده احنا بقينا يوم الجمعة تاني، هو أنا مش لسه مصلي الجمعة إمبارح، هو أنا كبرت كده امتى، إمتى مرت عليا كل الأحداث دي”، تلك الأسئلة وغيرها بنسألها لأنفسنا باستمرار عند شعورنا بتقدم العمر، لكن ياترى هل فعلاً وتيرة الحياة بتكون أسرع كل ما بنكبر، ولا ده مجرد إحساس وهمي ملوش أي أساس.

كلمة السر” الإدراك”

الوقت لو حسبناه بالدقائق والساعات والسنين، هنلاقي وتيرتة ثابتة وقابلة للقياس، بمعنى إننا مش هنلاقي اثنين يختلفوا مثلاً على النهاردة كام فى الشهر، الساعة معاك كام دلوقتي، فاضل كام يوم والسنة تخلص، كلها ثوابت، لكن الأمور اللي ممكن نختلف فيها أشد اختلاف، هي إحساسنا بمرور الوقت نفسه، بمعني إمبارح مر عليك إزاي ومر عليا إزاي، حاجتين مختلفين عن بعض تمامًا، هنلاقي حد بيقول إمبارح كان يوم طويل جدًا ومش راضي يخلص، وواحد تاني يقول إمبارح مر هوا كان ورايا 5 آلاف حاجة ولم أُنجز أيًا منها، ولذلك السبب ظهر مصطلحين مختلفين للوقت؛ مصطلح إسمه “وقت العقل Mind time”، ومصطلح ثاني وهو “وقت الساعة Clock time”، لأن إحساسنا بالوقت يكون مختلف تمامًا عن الوقت الفعلي الذي يمر في الساعة، بناءًا على إختلاف المواقف الذي يمر به كل فرد منا، وطريقة إدراكنا لها، هل الموضوع يقتصر على المواقف المؤقتة التي نتعرض لها فقط، في الواقع لأ، أحيانًا شعورنا بإن الزمن يسرقنا أو إنه يمر بسرعة، بيكون شعور دائم نشعر به طوال الوقت، وخصوصًا عند التقدم في العمر، بل إن في تلك المرحلة تقديرنا للوقت نفسه يصبح مشوشًا وغير دقيق تمامًا.

تجربة طريفة

في تجربة شهيرة أجراها الباحثون على مجموعة متنوعة من الأطفال والشباب وكبار السن والتجربة كانت كالتالي، في البداية القائمين على التجربة أتوا بساعة رقمية دقيقة أو Stop watch ومجموعة من الشباب وقالولهم “إننا هنشغل الأستوب ووتش دلوقتي، لكن إنتوا مش هتبصوا في الشاشة بتاعته، والمطلوب منكم إنكم تحاولوا تحسبوا في دماغكم مرور دقيقة واحدة فقط، وأول ماتشعروا إن الدقيقة خلصت قولوا Stop ووقتها هنوقف الأستوب ووتش وهنشوف على الشاشة بتاعته الرقم اللي موجود فيها كام، وبناءًا عليه نشوف مَدى تطابق تخمينكم مع الوقت الفعلي للساعة”.
المدهش إن الشباب لما كانوا بيقولوا Stop ويبدأ القائمين على التجربة يبصوا على الأستوب ووتش، كانوا بيلاقوا إنه فعلًا مر دقيقة بالظبط أو حوالي دقيقة وثانيتين أو دقيقة وثلاث ثواني فروقات طفيفة جدًا، والكلام ده معناه إن إحساس الشباب أو المراهقين عمومًا بالوقت بيكون مظبوط ودقيق نوعًا ما.

المدهش أيضًا إنهم لما عملوا نفس التجربة بالظبط مع كبار السن، كانت النتائج في غاية الغرابة لما كانوا بيطلبوا من كبار السن إنهم يحسبوا دقيقة في دماغهم وبعدين يقولوا Stop كانوا بيقولوا Stop بعد دقيقة ونص وأحيانًا بعد دقيقتين كاملين، في حين إنهم لما كانوا بيعملوا نفس الموضوع مع الأطفال كانوا الأطفال بيقولوا Stop بعد حوالي 40 ثانية في المتوسط، وأحيانًا بعد مدة زمنية تكاد تكون نصف دقيقة، ومعناه ببساطة إن كبار السن الوقت يمر عليهم بسرعة ويفوت دون الشعور به، مثل ما حدث في التجربة لما مر عليهم دقيقتين كاملين وهما معتقدين إن اللي مر دقيقة واحدة فقط، في حين إن الأطفال على النقيض تمامًا، وده لأن الوقت يمر عليهم بشكل أبطأ، الأطفال في التجربة النصف دقيقة مرت عليهم كأنها دقيقة، أو بمعنى أخر التوقيت عندهم مقسوم على اثنين، ما نتصوره إنه دقيقة هما متصورين دقيقتين، ومعنى ذلك أن الأطفال تشعر أن الوقت يمر أبطأ من الوقت الحقيقي.

التفسير العِلمي

وبعد معرفة إن الأطفال وكبار السن يدركون الوقت بشكل مختلف، هل يوجد تفسير علمي لذلك، يشرحه باستفاضة، بحث تم نشره في عام 2019 في المجلة الأوروبية والذي أعده هو أستاذ الهندسة الميكانيكية بجامعة “ديوك Duke University” البروفيسور “أدريان بيجان Adrian Bejan”.

وشرح بيجان في بحثه السبب تحديدًا وراء إحساسنا بأن الوقت يمر أسرع كلما نكبر في العمر، وقال إن إحساسنا بالوقت ينقاس من خلال عدد الصور الذهنية التي يسجلها الدماغ ويخزنها في كل لحظة نمر بها، بواسطة حركة “العين السكادية Saccade” أو الحركة الرمشية، وهي الآلية التي تعمل بها العين في كل مرة عند التركيز على صورة أو أي جسم، متواجد أمامنا حتى لو كان حاجة ثابتة، وفي ذلك الوقت تبدأ حدقة العين بالحركة سريعًا وتنتقل بين النقاط البارزة أو النقاط المميزة في الجسم أمامه، وكأنه بالظبط يعمل عملية مسح شامل لحفظ التفاصيل، وتلك الحركة تحدث في أجزاء من الثانية بدون أي مجهود منا والتحكم فيها يكون عن طريق الجهاز العصبي المركزي بصورة مباشرة.

وأثبت البحث إن حركة العين السكادية عند الأطفال والرضع تكون سريعة جدًا، وتعمل بكفاءة عالية وتُسجل كمية مهولة من التفاصيل، لكن لما نكبر في السن تلك العملية تكون أبطأ، بل إن الدماغ نفسه ينخفض فيه معدل إدراك التغييرات في كل الصور الذهنية التي يتم تسجيلها، فلا يستطيع أن ينقل الإشارات والمعلومات بالسرعة التي كان عليها، ويوجد أيضًا عامل آخر مهم وهو وجود علاقة طردية بين الزيادة في العمر وبين تطور الدماغ وزيادة تعقيدات مسارات نقل المعلومات، فكلما يزيد العمر كلما نجد عدد أكبر وأكبر من الوصلات العصبية، وبالتالي يزيد تعقيد المسارات التي تنقل المعلومات بما فيها المعلومات البصرية، وأوضح البروفيسور أدريان بيجان في النهاية كل ذلك من خلال رسم بسيط وأوضح فيه عدد الأحداث والصور، التي يستطيع الدماغ بتسجيلها في مرحلة الطفولة والتي يكون عددها أكبر بكثير مقارنة ما يتم تسجيلها عند كبار السن.

مثال للتبسيط

لو حاسين إن الكلام معقد، فخلينا نبسط الموضوع أكثر، يعرف أغلبنا حركة الرسوم المتحركة الـFlipbooks وهو عبارة عن كتاب صغير مرسوم فيه مجموعة من الرسومات الفرق بين الرسمة والرسمة التي تليها فروقات بسيطة وعند بدأ تقليب صفحات الكتاب وراء بعض بسرعة تبدأ الرسمة تتحرك وكأنها فيديو،
خلينا نعتمد على الـFlipbooks في المثال اللي هنوضح به، لو الصفحات كثيرة جدًا وقلبناها بسرعة سوف يعطينا تفاصيل مهولة في المشهد الذي يحدث أمامنا وهنحس إننا بنعيش مع المشهد وقت أطول، أو بمعنى أصح المشهد يمر علينا ببطء، لكن على النقيض لو معانا Flipbook أخر عدد صفحاته قليلة، وقلبناه براحه للاستغراق في تقليبه نفس المدة التي استغرقناها في تقليب الكتاب الأول هنحس إن المشهد يمر بسرعة، ولا يأخذ وقت، وده مع إننا قلبناه في نفس المدة الزمنية اللي قلبنا فيها الكتاب صاحب الصفحات الأكثر، وذلك إسقاطً على حركة العين السكادية مع قدرة العقل على معالجة معلوماته البصرية، كلما تلتقط العين تفاصيل كثيرة وكلما العقل يتعامل معها بسرعة، كلما قل الوقت من منظورنا بشكل أبطأ، وعلى النقيض كلما تلتقط العين تفاصيل قليلة ويتعامل العقل معها ببطء، كلما كان إحساسنا بالوقت أو الأحداث الذي يمر علينا أسرع.

النسبة المئوية

 لو سألنا طفل عنده 10 سنين عن مشاعره وأحاسيسه تجاه سنة أولى إبتدائي مثلاً، نجد وصفه لتلك السنة إنها عمر وهي فعلاً الحقيقة؛ لإن نسبيًا كده سنة بالنسبة لطفل عمره 10 سنين هي عُشر عمره بالكامل وهي نسبة كبيرة جدًا، لكن لو جينا سألنا شخص عمره 50 سنة عن مشاعره واحساسه بسنة معينة إيا كان الأحداث التي مرت عليه، سنجد أن وصفه لتلك السنة ممكن يتلخص في حدث أو اثنين بالكثير؛ لأن السنه التي مضت تمثل له واحد على خمسين من عمره أيضًا واللي في تلك المرحلة هي قليلة.

بورك لأمتي في بكورها!

في النهاية على الرغم من أننا ربطنا مرور الوقت بسرعة، بالتقدم في العمر أو بكبار السن إلا إنه يوجد حاليًا ظاهرة غريبة جدًا، وهي إن كلنا في الفترة الحالية بلا استثناء سواء صغيرين أو كبار، حاسين إن الوقت فعلاً بيجري، أو إختصارًا “تحس إنه مابقاش فيه بركة”؛ وكأنه تجسيد حقيقي لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ”، والسعفة هي خوصة واحدة فقط من ورقة النخلة أو من الجريدة الخاصة بها.

وعلى الرغم إنه فعلاً شعور جماعي معظمنا حاسينه، إلا إن في بعض الحلول البسيطة التي نسأل الله عز وجل بها بركة في يومنا، وأولهم هو إنك تستيقظ مبكرًا،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”بُورك لأُمَّتي في بكورها“،والبكور هو أول النهار بعد الفجر، وضروري أيضًا التخطيط والتنظيم الجيد للوقت، بمعنى إننا لا نترك الأمور بالكليه و”تمشي زي ما تمشي”.

آخر حاجة ونستخلصها من أول بحث ذكرناه في الحلقة، هو أننا نكثر من التجارب الجديدة في يومنا، ونركز في كل حاجة بتحصل حولنا نتعلم حاجة جديدة مثلاً، وبعد مرور وقت على كل تلك التجارب هنشعر وقتها إن فعلاً الشهر الماضي كان ملئ بالأحداث، وعند مراجعة أحداث السنة مع نفسك، سوف تجد أنك فعلت كذا واتعلمت كذا وسافرت للمكان الفلاني، وغيره وغيره، وهو تحديدًا ما يجعلك تشعر إنك قضيت أوقات كثيرة ذات قيمة، وكل وقت منهم كان مميز عن غيره.