مصر القَديمة مرت بفترات من المجد والتدهور على مدار حكم الفراعنة قبل ما يسيطر عليها الرومان، وفي الوقت اللي دام فيه مجد مصر لـ أكتر من 3000 سنة، هيمنت قوة الفراعنة العسكرية على باقي الممالك المجاورة، ولو لاحظنا الآثار اللي بـتعود لـعصور مجد مصر هنلاحظ مباشرة إن الفراعنة وحكامهم طغَى عليهم حب الدهب بشكل كبير، لدرجة إنهم عملوا تماثيل لنفسهم من الذهب الخالص، وكانوا بياخدوا دهب كتير ويحطوه معاهم في حجرات الدفن في مقابرهم أملًا منهم إن الذهب يغنيهم في الحياة ما بعد البعث.
وبما إن التجارة الداخلية والخارجية كانت مزدهرة في العصور دي، هنلاقي إن ملوك الفراعنة كانوا بـيستوردوا الدهب من شعب مملكة مصر الجنوبي، أو كمَا يطلق عليهم “الفراعِنة أصحاب البشرة السمراء”، واللي كانوا جزء من مصر القَديمة قبل ما يتبدل الحال ويتمرد شعب المملكة الجنوبي على ملوك وحكام الأسرة الفرعونية الـ 24 ويعلنوا الحرب عليهم ويهزموهم كمان، و من الوقت دا أصبح حكم مصر القديمة بـ أكملها مِلك لـ الفراعنة أصحاب البشرة السمراء، والفترة دي من حكم الأسرة الـ 25 أو حكم فراعنة مملكة الجنوب، لم تكن معروفة كفاية للمؤرخين، لكن في السنوات الأخيرة بدأ علماء الآثار والمصريات في البحث عى أدلة جديدة تبين لهم أكتر عن الفترة دي.

كيف تم اكتشاف حضارة كُوش

في أواخر القرن الـ 20 عالِم الآثار السويسري “شارلز بونيه Charles Bonnet “، قَضى عشرات السنين في التنقيب في الأراضي المحيطة بـجنوب نهر النيل، للبحث عن الآثار المصرية الفرعونية وعن الحضارات اللي كانت موجودة على امتداد النيل، وأثناء البحث وجد آثار تدل على حضارة غنية جدًا بالتجارة ووفيرة بالدهب والحقول والثروة الحيوانية، ولكنها مختلفة شوية في ثقافتها المادية وتقاليدها عن الحضارة المصرية القديمة، وعشان نعرف اكتر عن الحضارة التى اكتشافها دي محتاجين نرجع بالتاريخ للقرن الثامن قبل الميلاد، لما عانِت مصر من الغزوات المتكررة عليها من الآشوريين والفُرس والرومان.

مين كُوش وازاي حكَموا مصر؟

أثناء ازدهار الدولة المصرية القديمة، حاول كتير من حكامها إخضاع أكبر جزء من دول نهر النيل تحت حكمهم، وبـالفِعل نجحوا في ضَم شعب المملكة المصرية الجنوبي واللي كان يُسمى بـشعب كوش، وكلمة كوش دي بـ تعود لـ كوش الابن الأكبر لـ حام ابن نُوح عليْهِ السَلام، واللي استقر هو وأولاده على امتداد النيل وأسسوا دولة امتدت بامتداده، وخاصًة في منطقة النُوبة اللي بـتشمل المنطقة الواقعة بين أسوان في جنوب مصر والخرطوم في وسط السودان، واتعرفت من وقتها الدولة دي باسم مملكة كوش واللي كانت عاصمتها مدينة نَبتة، وبسبب غناء مملكة كوش بالدهب، اتهددت مرات كتير جدًا واتعرضت لغزوات كتيرة من الدولة المصرية القديمة، لحد ما نجحت مصر لضم كوش ليها فى النهاية، وبعد فترة كبيرة من السيطرة كانت مصر مطمع للآشوريين والفُرس والرومان، وبـالفعل بدأوا في خوض غزوات متكررة تجاه مصر ودا اللي أضعف حكم الدول المتوسطة؛ لكنه ما أثرش كتير على كُوش نظرًا لبعدها فى الجنوب، واستغل شعب كُوش ضَعف حكام مصر وبدأوا يطوروا من نفسهم ومن مهاراتهم القتالية، وبدأوا تدريب الرماة اللي اشتهرت بيهم كُوش فى المعارك، واللي خلت المصريين يطلقوا على مملكة كُوش اسم أرض القوس، وأثناء حكم الملك “ألارا Alara” الكوشي، تمرد أهل كوش على حكام مصر وهاجمها “ألارا” وغزا مصر من الصعيد وضمها لمملكته، وبعد وفاة الملك ألارا تولى ابنه (كاشتا Kashta) حكم النوبة وصعيد مصر، ونجح فـ الوصول لطيبة عاصمة مصر القديمة وضمها لـ مملكة كوش، وبعد وفاة كاشتا خلَفه الملك (بي Piye) اللي قدر يسيطر على شمال مصر، ووحد مصر وكوش وأسس الأسرة الـ 25 المصرية ومسك عرش مصر بـالكامل.

نهضة كُوش في عهد الملك طهارقة

الملك طهارقة

على الرغم من سيطرة الملك “بي” على مصر بـالكامل وضمها لكوش، إلا إن كوش مابلغتش ذروة نهضتها إلا في عهد الملك “طهارقة Taharqa” ابن الملك “بي”، ودا لأن في عهد الملك طهارقة دخلت كوش في معارك على نطاق واسع مع الآشوريين رغبًة من الملك في الهيمنة على بلاد الشَرق الأدنى وتوسيع مملكة كوش، واستمرت الغزوات والمعارك بين الملك طهارقة والآشوريين واستمرت انتصارات طهارقة ضد الاشوريين، لحد ما جهز ملك آشور 3 حملات قوية وفتاكة للقضاء على القوة الكوشية بالكامل، لكن مع ذلك قدِر طهارقة من الوقوف بقوة وصَد أول حملتين من الآشوريين، وبالرغم من قوة الكوشيين إلا إنهم ماقدروش يقفوا قدام القوة العسكرية الكبيرة لـ آشور، وأنهزمت مملكة كوش وتقهقر حكم طهارقة للنوبة بعد فقد سيطرته على مصر بالكامل، وهنا كانت نكسة كوش إلا إن طهارقة مافقدش الأمل، فبعد موت “سنحاريب” ملك آشور وتولي ابنه “آشور بانيبال Ashurbanipal”، أشعل طهارقة الثورات في جنوب مصر ضد حكم الآشوريين، واستمرت الثورات دي بـلا جدوى لحد ما مات طهارقة وحكم بعده ابنه “تنت اماني Tantamani”، اللي كمل ثورات أبوه ضد حكم آشور، لكن على الرغم من ذلك إلا انه فشل في استعادة السيطرة على مصر مرة تانية.

استرداد بسماتيك لأرضه ومحاولة ضم كُوش

بسماتيك الثاني

فضلت مصر تحت حكم الآشوريين لحد ما تمكن الملك “بسماتيك الأول” من الانقلاب عليهم وعلى سلطة آشور، وقدِر على هزيمتهم ووحد مصر تحت سلطته، وبعدها أسس الأسرة الحاكمة الـ 26 وقطَع تمامًا الروابط بين مملكة كوش وصَعيد مَصر، واكتفى بمصر كمملكة تحت حكمه، وفـى الوقت دا فضلت بلاد النُوبة تحت حكم مملكة كوش، واستمرت على حال الاستقرار دا لحد ما مسك حكم مصر الملك “بسماتيك الثاني” اللي حاول بـاستمرار السيطرة على بلاد النوبة، ودا عمل قلق عند الكوشيين من محاولاته وقرروا نقل عاصمتهم من نَبتة لـمدينة “مروي Meroe” الأبعد منها لتفادي سيطرة بسماتيك الثاني على عاصمة بلاده، وبـالتالي يقدر يسيطر على بلدهم وعلى كوش بالكامل.

مملكة الذهب

مدينة مروي عاصمة مملكة كُوش كانت موجودة على ضفاف النيل، وكانت مجمع زراعي وصناعي في نفس الوقت، واشتهرت بـأعمالها الحديدية والتجارية وخاصة تجارة الدهب اللي كان متوافر بكثرة في كوش، وساعدها على إنها تكون مملكة ثرية لـدرجة إطلاق اسم مملكة الذهب عليها، وكانت بـتصدر “مروي” الحبوب والأسلحة والأدوات الحديدية والماشيَة، وكانت مدينة ثرية بدرجة أسطورية وبقت مضرب المثل في المدن القوية، ولعل سبب اختيار حكام كوش لمروي كـعاصمة لـبلادهم هي التضاريس الواعرة اللي بـتحيط بيها، واللي هتخلي من الصعب لأي مُعتدي على كُوش من إنه يقدر يدخل عاصمتها مروي، بجانب ارتفاع الغابات الطويلة والكثيفة والحقول الخصبة حول المدينة، واللي كان من السهل ريها بـمياه النيل، فـكانت خصبة بـدرجة كبيرة من غير أي تعب من المزارعين الكوشيين، وبسبب جمال مدينة مروي وقوتها التجارية والعسكرية عاش فيها الملوك والحكام، والطبقة العليا من المجتمع كمان عاشت فيها في بيوت وقصور كبيرة بـتطل على طرق واسعة، وكانت بـتعيش الطبقات المتوسطة والفقيرة في مروي في بيوت من الطوب اللبن أو أكواخ، ووفقًا للنقوش القديمة اللي تم اكتشافها هنلاقي إن حتى أفقر مواطن في مروي كان أفضل حال من أي شخص تاني، وكانت الفترة اللي فيها مروي عاصمة كُوش من أكتر الفترات اللي ازدهرت فيها المملكة تجاريًا واقتصاديًا وعسكريًا، وازدهرت مملكة كوش وامتدت سلطتها شمالًا لـجزيرة فيَلة، أحد حصون جنوب أسوان القوية، واتحسنت علاقتهم مع الدولة المصرية.

نهاية كُوش من التاريخ

استمرت مدينة مروي عاصمة لمملكة كوش، واستمر الازدهار لحد ما هجم الرومان على كوش في القرن الأول الميلادي في عهد الكنداكة “أماني ريناس Amanirenas”، ولقب كنداكة دا كان لقب الملكات الحاكمات في مملكة كُوش، وانتصرت الكنداكة “أماني ريناس” على الروم انتصارات أولية، إلا إن الرومان قدروا إنهم يهزموا الكوشيين ويستولوا على مدينة نَبتة العاصمة السابقة لمملكة كُوش، وبعد استيلاء الرومان على نبتة بدأوا في تدميرها بـالكامل، لكن على الرغم ذلك إلا إن دا ماسببش الفزع والخوف للملكة ولا للشعب، واستمر القتال لحد ما وقّعت مملكة كوش مع المملكة الرومانية معاهدة سلام، ونصت المعاهدة على عدم القتال بين الرومان والكوشيين، وعدم فرض الرومان الضرائب على شعب مملكة كوش، ونمت التجارة بين المملكتين وأصبحت النوبة دولة تابعة لـ الحكم الروماني، وبدأت كوش تتلاشى كقوة عسكرية في القرن الأول والتاني الميلادي، وبـحلول القرن السادس الميلادي تراجعت كوش وتفككت وانتهى حكم مملكة كوش من التاريخ.