المعونة الأمريكية، كتير مننا سمعوا الجملة دي نظرًا لإنها منتشرة بكثرة في عالم الاقتصاد والسياسة، ومن وقت للتاني بنسمع إن أمريكا بتدي فلوس لعدد من الدول، والمدهش إن المعونات دي مابيتمش تقديمها للدول الفقيرة فقط، أو لدول العالم التالت بس زي ما البعض معتقد، ولكن في الحقيقة أمريكا بتدي مبالغ مالية ضخمة لعشرات الدول، بعضهم بيكونوا في غنى تام عن أي معونات من أمريكا أو من غيرها، وبناءًا عليه، بيظهر تساؤل بخصوص الموضوع ده، هو ليه دولة في حجم وقوة الولايات المتحدة الأمريكية، عمالة توزع فلوسها كده على الفاضي والمليان، هل ده كده موضع قوة ولا موضع ضعف، إيه السبب الحقيقي ورا المعونات دي، وإمتى بدأت، وإشمعنى أمريكا بالذات هي اللي بتدي معونات وفلوس لباقي دول العالم؟

مساعدة أم مصلحة أكبر

المعونة الأمريكية هي مساعدة بتقدمها الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من الدول، والهدف المعلن وهو دعم السلام والتنمية والأمن العالمي وتقديم الإغاثة الإنسانية في أوقات الأزمات، والولايات المتحدة بتعتبر ده واجب استراتيجي حيوي لأنها كده بتحافظ على مصالحها وعلى أمنها القومي بصورة غير مباشرة.
أول برنامج مساعدات أمريكية يحصل كان بعد الحرب العالمية التانية مباشرة لما قرر وزير خارجية أمريكا في الوقت ده (جورج مارشال) إنه يقدم مساعدات كبيرة لدول أوروبا بعد الحرب، وده عشان يساعدوا القارة بأكملها في إعادة بناء بنيتها التحتية وتقوية إقتصادها وتحقيق الإستقرار في المنطقة، واللي أمريكا هتستفيد من خلاله بشكل أو بأخر.
وكانت دي البداية لإنشاء عدد كبير من برامج المساعدات الأجنبية في السنوات اللاحقة، في عام 1961 ظهرت المساعدات الخارجية بقوة لما وقع الرئيس الأمريكي (جون كينيدي) قانون اسمه (المساعدة الخارجية)؛ عشان الموضوع بعد كده يكون تابع لـ قانون صريح، وليه أهميته التشريعية داخل البلد.
وأنشأ (كينيدي) كمان الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ومعاها زادت جدًا جهود المساعدة الخارجية الأمريكية، وأصبحت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أول وكالة مساعدة خارجية أمريكية، والهدف المعلن منها هو التنمية العالمية طويلة الأجل عشان تشمل التقدم الاقتصادي والاجتماعي في عدد من الدول، ولحد النهاردة الولايات المتحدة بتدير برامج مساعدة في أكتر من 100 دولة على مستوى العالم.
الغريب بقى والمُلفت في الموضوع هو إن المعونة الأمريكية دي بتستمر في التدفق للدول المُتلقية ليها حتى في أشد أوقات نقص الميزانية الفيدرالية، وبالرغم من إنه في الوقت ده بيحصل حالة من السخط في الشارع الأمريكي اللي من وجهة نظرهم إن المعونات دي إهدار في المال، إلا أن الحكومة في العادة مابتتوقفش عن إرسال المعونات للدول المعنية، وده اللي بدوره بيدي إنطباع إن الأموال الأمريكية اللي بتروح لدول العالم مش معونة ولا حاجة زي ما بتسميها الولايات المتحدة ولكنها تمن لمصلحة أكبر، من وجهة نظر الحكومة الفيدرالية.

مبالغ المعونات

خلينا طيب دلوقتي نطرح سؤال، ياترى المبالغ اللي أمريكا بتديها للدول أد إيه، وهل هي فعلا بالحجم اللي يستاهل الضجة دي ولا لأ؟، وعشان نجاوب على السؤال ده فخلينا نُلقي نظرة عن قرب على مبالغ معونات بعض الدول.
في عام 2013 العراق وصل مبلغ المعونة ليها حوالي 2 مليار دولار أمريكي ودي تقريبًا كانت أعلى وأضخم نسبة من بين كل الدول العربية وقتها، لكن المبلغ ده قل تدريجيًا مع مرور الوقت.
وفي المرتبة التانية بين الدول العربية هنلاقي مصر جت وبمبلغ قيمة منحتها حوالي 1.4 مليار دولار، ومصر كانت بتتلقى مساعدات من أمريكا تقريبًا منذ عام 1946، إلا أن المعونة المصرية بدأت بشكل رسمي بعد إتفاقية السلام اللي تم توقيعها بين مصر والكيان الصهيوني سنة 1978، وبتنقسم المعونة لجانب إقتصادي وآخر عسكري.
وكانت في باديء الأمر أشبه بمساعدة، لكنها فيما بعد ومع حلول عام 1987 تحولت من مجرد مساعدة، لـمنحة سنوية لا تُرد، والمعونة الأمريكية في التوقيت ده مكنتش لمصر فقط، ولكنها كانت لكلا طرفي المعاهدة، الكيان الصهيوني المحتل بيتقاضوا مبلغ 3.1 مليار دولار من أمريكا.
وبتيجي الأردن في المرتبة التالتة ضمن الدول العربية اللي بتحصل على معونة من أمريكا، وده بمبلغ قيمته حوالي 1.2 مليار دولار، أما سوريا فكانت بتحصل من عدة سنوات على حوالي 800 مليون دولار، إلا أن في الأونة الأخيرة الموضوع بقى مُضطرب وقل المبلغ لحوالي 170 مليون، ولبنان بتتلقى ما يقارب الـ 150 مليون دولار، أما اليمن ف لحد 2017 كانت بتحصل على حوالي 180 مليون دولار معظمها بيكون في صورة مساعدات إنسانية، ودول تانية كتير زي الصومال والسودان وتونس والمغرب وليبيا والجزائر وموريتانيا والبحرين، وحتى دول الخليح هي كمان مش بعيدة تمامًا عن المعونة، لكن أرقامهم بتقل تدريجيا مع مرور الوقت، والمعونة بتظهر فجأة وبتنقطع فجأة.
وطبعًا الموضوع مش متوقف على الدول العربية بس، ولكن فيه عدد من الدول الأخرى زي أفغانستان ونيجيريا وموزمبيق وكولومبيا وكينيا وتنزانيا، بل إن القايمة فيها دول أوروبية، زي أوكرانيا مثلًا على سبيل المثال بتتقاضى من أمريكا سنويًا حوالي 200 مليون دولار.
كل الأرقام اللي ذكرناها كانت لعدد بسيط من الدول واللي بتعتبر جزء هين من إجمالي المعونة الأمريكية اللي بتشمل حوالي 100 دولة، ولك أن تتخيل بإن إجمالي مبلغ المعونات والمساعدات الخارجية لأمريكا في عام 2016 وصل لأكتر من 46 مليار دولار، وفي 2017 وصل لـ 52 مليار دولار.

ما الهدف من المعونات؟

الأرقام اللي ذكرناها ممكن تبدو مهولة وضخمة، لكن اللي يصدمك أكتر إن كل المبالغ دي لا تتجاوز حوالي 1% بس من الموازنة الأمريكية، وبـ الـ 1% دول قدرت أمريكا من خلال الرقم الصغير ده إنها تأسر دول بأكملها، وخبراء الاقتصاد بيوصفوا الدولار الأمريكي بإنه مابيغيرش من جنسيته لما بيدخل دولة جديدة ولكنه بيكون قادر إنه يغير جنسية الدولة، وبالفعل بنلاقي كل الدول اللي بتاخد المعونات الأمريكية دول متعاونة لأقصى درجة مع الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا، وفي المقابل بتستفاد واشنطن منهم بدرجة كبيرة، ومن أهم الحاجات دي إنه بيتم السماح لطائراتها الحربية بالتحليق في الأجواء العسكرية داخل أراضي الدول المُحالفة، وكذلك بيتم منح أمريكا تصريحات على وجه السرعة لمئات السفن الحربية الأمريكية لعبور القنوات والمسطحات المائية الخاصة بالدول المُحالفة.
ده غير إن أمريكا في بعض الأحيان بتستخدم المعونة كورقة ضغط على الدول لتحقيق مصالحها السياسية، وبيهددوا طول الوقت بأنهم ممكن يقطعوا المعونة عن الدول اللي هتعترض موقف أمريكا السياسي، أو تعترض شئ على هوى أمريكا.
والرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب Donald Trump) كان بيحذر الدول بشكل صريح أثناء التصويت الدولي على أي قرار، وكان بيقولهم علانيًة “أنا براقب التصويت، واللي هيصوت ضد القرار همنع عنه المعونة”، ومن المضحكات المبيكات هي إنه يقال بإن (أوكرانيا) في أحد المواقف، صوتت لصالح أمريكا في قرار معين على الرغم من إنها مكنتش حاضرة الجلسة أساسًا.

الطرف الكسبان

من الحاجات الغريبة بقى إننا لو جينا نراقب فلوس المعونات اللي الدول بتاخدها، هنلاقيها بصورة أو بأخرى بتصب في صالح الإقتصاد الأمريكي مرة تانية؛ وده لأن برنامج المعونة لأي دولة بيشترط بعض الأشياء، ومن أهمها إن السلع اللي بيتم التمويل بيها تكون تابعة للشركات الأمريكية، يعني أمريكا ما بيدوش الفلوس للدولة ويقولولهم إشتروا من اللي إنتوا عاوزينه، ولكن بيجبروهم على حاجات بعينها، وده بيخدم الشركات الأمريكية والاقتصاد الأمريكي بشكل أو بأخر، وبالتالي بيحرموا الدول من حق إختيار البدائل المختلفة في السوق، وده معناه أن الشركات الأمريكية بتسترد جزء كبير من قيمة المعونة على هيئة أرباح إضافية.

ده غير إن كتير من السلع اللي أمريكا بتصدرها للدول على هيئة معونة، بتكون أصلًا عبارة عن فائض في منتجات الدولة وبيصدروا المنتجات دي بعينها ومابيكونش من حق الدولة إنها تختار أي منتج تاني.
والطريف أكتر إن لو فيه دولة هتستورد أحد البضائع أو الخامات اللي ضمن برنامج المعونة الأمريكي، حتى وسيلة الشحن بيبقوا مُجبرين عليها، يعني مش من حق أي دولة إنها تحدد نوع السفن اللي هتنقل البضايع، ومايقدروش يستخدموا سفن محلية بتاعتهم، ولكن الإتفاقيات بتشترط إن المعونة يتم شحنها على سفن أمريكية أو أي سفن أخرى تابعة ليها؛ وده عشان يتم دعم شركات الشحن الموجودة داخل الولايات المتحدة.
ده غير إن حتى المبالغ المالية اللي بتديها أمريكا للدول كمعونة عسكرية بيحصل فيها نفس السيناريو تقريبًا، أمريكا في العادة بتجبر الدول إنهم يشتروا السلاح الأمريكي بجزء من فلوس المعونة العسكرية وجزء كبير من الأسلحة دي بيكون أصلًا فائض لدى وزارة الدفاع الأمريكية، أو جيل قديم من الأجهزة والمعدات الحربية.
وبالتالي أمريكا بتكون كسبانة من كل الجهات، بتدي معونة سنوية للدول النامية وغير النامية عشان تكسب ولائهم، وفي نفس الوقت بتتفنن أمريكا في إنهم يخلوا الدول تستثمر الفلوس دي اللي خدوها في حاجة تفيد الاقتصاد الأمريكي مرة تانية، وبكدا يقدروا يتخلصوا من منتجاتهم الفاضئة في مختلف دول العالم، وبتكون هي أخيرًا الطرف الكسبان.