المقاعد موجودة بشكل عام علشان نقعد عليها ونرتاح، وعلشان كده مش من المنطقي إطلاقًا إن حد يعمل مقعد متعب وغير مريح، لكن لو بصينا على الصورة اللي قدامنا دي
هنلاقي إن المنطق ده بيتلاشى تمامًا، المقاعد دي صلبة جدا وغير مريحة وتقريبًا مفيش حد فينا ماشفهاش قبل كده، منتشرة في كل بلدان العالم تقريبًا – والموضوع مش مقتصر على الدول الفقيرة وكدا، حتى في قلب الدول الغربية واللي هي أصلاً دول غنية ومتقدمة، هتلاقي برضه المقاعد دي منتشرة بداخلها في كل مكان- في الحدائق والميادين والأماكن العامة، فياترى بقى إيه الحكاية، هل الدول اللي بينتشر فيها النوعية الغريبة دي من المقاعد بيكونوا متعمدين ده، ولا الموضوع مجرد صدفة؟
التصميم الدفاعي
كل الحدائق العامة بلا إستثناء المقاعد فيها بتكون عبارة عن خليط من الأخشاب والمعادن وبيبقى فيه مسافة فاضية بين الألواح وبعضها، بتبقى قاعد عليها مش مرتاح وكل اللي تقدر تعمله إنك تسند ضهرك مش أكتر وبعدها بشوية تزهق وتقوم.
أما بقى النوع التاني من المقاعد بتبقى مقاعد حجرية، لكن برده وإنت قاعد عليها هتلاحظ إنها مش مريحة إطلاقًا، فيه حاجة غلط في الموضوع وبعدها بشوية برده هتزهق وتقوم.
والأغرب من ده كله إن في بعض محطات المترو تخلت عن المقاعد التقليدية تمامًا وإبتكرت نوع جديد من المقاعد أطلقوا عليه اسم المقاعد المائلة، والمقاعد المائلة دي هي مش مقاعد أوي الحقيقة، هي عبارة عن أعمده متصلة ببعضها بشرائح مستطيلة مائلة، بحيث إن لو حد تعب من الوقوف العادي ولا حاجة فكل اللي يقدر يعمله إنه يجي جنبها كدا وسند ضهره ولا أكتر ولا أقل، والموضوع تم تطبيقه خارج محطات المترو وبقى موجود بكثرة في الشوارع الرئيسية كمان.
للوهلة الأولى ممكن تعتقد إن الهدف الرئيسي من التصاميم دي كلها هو إنهم يعملوا مقاعد صلبة وقوية عشان تقدر تستحمل فترات طويلة من غير ما تبوظ، أو ممكن حد يقول ده تصميم وحش وخلاص، لكن في الواقع مفيش أي حاجة من التخمينات دي صح؛ لأن ببساطة تصميم المقاعد العامة بالشكل ده هو مقصود ومتعمد وإتعمل بصورة دقيقة بدون أي إهمال، بل إن التصميم ده أصلًا هو أحد التصميمات الهندسية والمعروفة باسم (التصميم الدفاعي).
التصميم الدفاعي هو تصميم المقصود منه الحد من إساءة إستخدام الأشياء، وده بيتم تطبيقه على المقاعد دي عن طريق إنها تبقى مزعجة وغير مريحة وكل الفكرة إنها تقضي الغرض على إستحياء كده، يعني لو حد تعبان من المشي فيريح شوية لكن ميطولش لأنه ببساطة لو طول هيتعب أكتر.
والسؤال اللي بيطرح نفسه هنا، ليه المسئولين عن تركيب المقاعد دي بيعملوا كده، ليه بيتعمدوا إنهم يبعدوا الناس عن المقاعد، مش دي أصلاً وظيفة المقاعد في الأساس إن هي تستضيف الناس؟
من وجهة نظرهم الموضوع بيكمن في عدة أسباب، أولها إبعاد المشردين عن المكان، يعني هما شايفين إن لو فيه مكان سواء ميدان أو حديقة، تم توفير فيهم مقاعد مريحة ودافية فيها؛ ده هيخلي الأشخاص اللي بلا مأوى يستغلوا المكان ويناموا عليه، وبالتالي المقاعد دي هتبقى أماكن بتجمع المشردين؛ وعشان كده هتلاحظ إن معظم المقاعد العامة إما متقسمة بحواجز من النص أو فيه فواصل وفراغات بين كل مقعد والتاني، والهدف الأساسي من كدا إنها تكون غير مُهيأة للنوم.
أينعم ممكن تحس إن الموضوع شرير شوية، لكنها في النهاية وجهة نظرهم من التصميم إن المقاعد العامة معمولة عشان الناس تنتفع بيها مش المشردين يناموا عليها طول الوقت، وطبقًا للإحصائيات ففي آلاف الأشخاص كانوا بيناموا على المقاعد العامة وكذلك المقاعد الموجودة داخل محطات مترو الأنفاق، وسياسية التصميم الدفاعي للمقاعد ووجود الحواجز مابينهم قللت جدًا من ظاهرة تجمع المشردين في الأماكن العامة.
وجهة نظر تانية للمصممين في إن المقاعد غير مُمهدة هو تقليل الوقت اللي بيقضيه الأشخاص في التجمع في منطقة معينة أو إنهم يتسكعوا مدة طويلة، في محاولة للحد من الجرائم وتداول المخدرات، وأخيرًا بقى في الدول اللي منتشر فيها التزحلق بالألواح الكراسي الغير مُمهدة دي بتمنع التزحلق بالألواح على الكراسي، وبالتالي تقليل الأضرار اللي بتلحق بالممتلكات العامة.
الفكرة بدأت أمتى؟
فكرة التصميم الدفاعي ماهياش حاجة جديدة ولا حاجة، دي جذورها بترجع لعدة قرون، وتحديدًا في الحِقبة الجورجية اللي بتبدأ تقريبًا من عام 1700، ولو بصينا على المباني الجميلة اللي كانت موجودة في الوقت ده، وخصوصًا داخل المملكة المتحدة هنلاحظ إن فيه مسامير على الجدران وعلى الأسوار، وكان القصد منها في الأصل هو ردع أي شخص يحاول تسلق جدارن المبنى، والآلية دي مع مرور الوقت اكتسبت إنتشار واسع بسبب زيادة معدل التشرد في المدن، واللي زاد من حدة الموضوع أكتر هو إن في مدينة (نيويورك الأمريكية) كان في عدد كبير من الأماكن العامة مملوكين للقطاع الخاص، وعشان أصحاب القطاع الخاص يقدروا يشيدوا مباني أكتر ويستفيدوا بحق انتفاع المكان، كان مُطالب منهم بموجب القانون إنهم يخلوا المساحات المحيطة بمنشائاتهم متاحة لعوام الناس؛ وعشان كده فكر أصحاب المنشأت دي إنهم ينفذوا نظام (التصميم الدفاعي) أو العِمارة المُعادية، وكانوا بيستخدموا أسياج معدنية لإحاطة الحدائق ونوافير المياه، بالإضافة طبعًا إنهم يخلو المقاعد غير مريحة للزوار ودي تقريبًا كانت اللَبِنَة الأولى لإنتشار الفكرة في باقي المدن.
القطارات والمواصلات العامة
من الجدير بالذكر إن إستراتيجية التصميم الدفاعي مش حِكر على الشوارع والميادين والأماكن العامة، لكن الغريب إنها مُنتشرة كمان داخل وسائل المواصلات، سواء في الأتوبيسات أو القطارات أو حتى مترو الأنفاق، حاول كده تفتكر أخر مرة ركبت فيها مواصلة عامة واسترجع شكل الكرسي اللي كنت قاعد عليه، غالبًا هتلاقي الكرسي ده منتشر في معظم المواصلات تقريبًا، كرسي صلب جدًا وغير مريح وماإنتش فاهم هو مصنوع من البلاستيك ولا من المعدن ولا إيه بالظبط.
والمدهش إن الكرسي ده برده وجوده في المواصلات العامة مقصود، بس المرادي مش عشان المشردين، فيه وجهة نظر غريبة بخصوص الموضوع ده ليها علاقة بالسِعة، والموضوع بإختصار إن لو فيه قطار موجود فيه 100 كرسي، اللي بيحصل في الواقع نتيجة للتكدس والإزدحام إن القطار ده يركبه 200 شخص بدل 100، يعني تقريبًا ضعف السِعة الطبيعية اللي بيتحملها، وبناءًا عليه فكروا إنهم يعملوا خدعة مش لطيفة خالص بخصوص الكراسي.
الخدعة دي هي إن الكراسي تتصمم صلبة وغير مريحة وبتوجع الضهر واللي بدوره هيخلي الراكب اللي قاعد لو كانت السَفرة طويلة يقوم بعد شوية عشان يفرد ضهره، وبكده يحصل تبادل بينهم وبين بعض الأشخاص اللي واقفين ويبقى فيه فرصة إنهم يقعدوا، وبالرغم من أن الآلية دي فعالة وبتجيب نتيجة داخل المواصلات العامة، لكنها تعتبر أسلوب غير لائق على الإطلاق؛ لأن المفروض القائمين على الأمر بدل ما يعملوا كراسي غير مريحة يوفروا عدد أكبر من العربات عشان تستوعب أعداد الناس.
سلاح ذو حدين
إحنا كده إلى حدٍ ما فهمنا فكرة التصاميم الدفاعية من وجهة نظر المصممين، لكن مازال في وجه أخر سلبي للتصميم.
واحد من الناس اللي عايشين في مدينة هو وأمه المُسنة، بيقول بالرغم من إن المدينة حديثة ومتطورة جدًا إلا إنه كل ما بياخد أمه للتمشية كنوع من الترفيه والعلاج بيحتاج من وقت للتاني إنه يخليها تستريح على أحد المقاعد، لكن لسوء حظه كل المقاعد اللي في المدينة من نوع (العِمارة المُعادية) والمقاعد دي طبعًا بتتعبها جدًا، وبتأثر عليها بالسلب.
وده يخلينا نستنتج إن تصميم المقاعد العامة بالشكل ده هو سلاح ذو حدين، ممكن يكون التصميم الدفاعي فعلًا قلل من معدل الجريمة والتخريب والتسكع زي ما بيقولوا، إلا إنها بالرغم من كده غير مناسبة إطلاقًا لكبار السن أو الأطفال أو المرضى أو لذوي الاحتياجات الخاصة، وبالتالي فكرة إننا نعمل تصاميم عشان ننفر الناس من الجلوس مابقتش دايمًا صحيحة؛ لأن في بعض الأحيان بنحتاج إن المقاعد تبقى مريحة، وده ببساطة الدور اللي بتهدف ليه العِمارة وهندسة البناء بوجه عام إن المنشأت تلبي إحتياجات الناس.
ده غير إن مكافحة التشرد والمخدرات بالعمارة المعادية هي فكرة ضعيفة وأشبه بالحل المؤقت، هي إينعم بتبعدهم عن المكان ده لكن بيروحوا مكان تاني، وبالتالي ده ماحلش ظاهرة التشرد من قريب ولا من بعيد.
وفي النهاية المقاعد الغير مُمهدة والمنتشرة في معظم بلدان العالم، مفيش سبب إيجابي يدعم تواجدها لحد النهارده، لكنها بالرغم من كده موجودة وفي كل مكان.