الجدري، الحصبة، شلل الأطفال، الملاريا، كل دي أمراض الحمد لله مابقيناش بنسمع عنها بفضل اللقاحات، لكن في وسط الأمراض دي كلها في مرض فيروسي بسيط محيرنا كلنا معاه، والمرض ده هو البرد، البرد هو تقريبًا أكتر مرض بيجيلنا خلال السنة، بل إن ممكن عدد كبير منكم دلوقتي يكون عندهم (برد) أصلاً، والسؤال اللي بيطرح نفسه هنا، هو إحنا ليه جسمنا مابياخدش مناعة ضد البرد مع إنه بيجيلنا كتير، وليه العلماء مش قادرين يعملوا مَصل أو لقاح للمرض الفيروسي البسيط ده بالرغم من إنهم توصلوا لـ أمصال ولقاحات لأمراض تانية مُستعصية وأكثر خطورة.
إيه اللي بيحصل في جسمنا لما بيجيلنا برد؟
في البداية خلينا نوضح إن البرد فيروس بسيط جدًا ومابيسببش أي أضرار تُذكر داخل الجسم، بل إن حتى الأعراض اللي بنحس بيها اللي زي السُعال وإنسداد الأنف مابتكونش بسبب الفيروس نفسه، ولكن بسبب مهاجمة الجهاز المناعي للفيروس وخلينا نوضح إزاي، الفيروسات اللي بتسبب البرد أول مابتدخل جسمنا بتلتصق بالخلايا الموجودة داخل الأنف، وخصوصًا في الممرات والجيوب الأنفية وبعد مابتلتصق بيهم بيبدأوا يعملوا من نفسهم نُسَخ كتيرة جدًا في عملية بتُعرف بإسم (التناسخ الفيروسي) أو الـ Viral Replication، أول بقى ما الجهاز المناعي بيلاحظ العملية دي بيبذل قصارى جهده علشان يقضي على الفيروس الدخيل ده ويوقف نشاطه، وبيبدأ يبعت الجنود بتوعه واللي هما خلايا الدم البيضاء للأماكن اللي موجود فيها الفيروس علشان يقاوموا العدوى بتاعته، في الوقت ده بتنتفخ الأوعية الدموية جدًا وبتتَسِع علشان تمرر أكبر كمية ممكنة من الدم، إنتفاخ الأوعية الدموية بيضغط على جدار الأنف وده اللي بيخلينا نحس إن مجرى الهواء عندنا مسدود، وهو كمان السبب اللي بيخلي الأنف والمنطقة المحيطة بيها يتلونوا باللون الأحمر أو الوردي، ده غير إن خلايا الدم البيضاء بتطلق مواد كيميائية علشان تساعد في محاربة الفيروس، والمواد الكيميائية دي بقى بتتسب في إلتهاب المناطق اللي فيها الفيروس، وبتتسبب كمان في تجمُّع السوائل فيها وده اللي بيسبب في النهاية السُعال وسيلان الأنف.
المرض الأكثر إنتشارًا بدون مُنازع!
المدهش بقى إنه بالرغم من إن البرد مرض فيروسي بسيط جدًا بالنسبة للجهاز المناعي، إلا إنه بدون مُنازع بيُعد أكتر الأمراض البشرية شيوعًا، وأكتر الأمراض اللي أصابت ومازالت بتصيب البشر على مرّ التاريخ، ملايين إن لم يكن حرفيًا مليارات الحالات من البرد والزكام بتحصل كل سنة؛ وده لأن الشخص البالغ بيجيله برد من مرتين لأربع مرات في السنة، والأطفال بيجيلهم من 6 إلى 10 نزلات برد في السنة، وممكن العدد يوصل لـ 12 نزلة؛ وعلشان كده البرد هو أكتر سبب في زيارة عيادات الأطباء، وأكتر سبب في تغيب البالغين عن العمل وكمان تغيب الأطفال عن المدارس، الحاجات دي كلها بقى بتخلينا نطرح السؤال المهم، وهو ليه جسمنا مش بيكوِّن مناعة ضِد البرد، وخصوصًا إنه فيروس بسيط وكمان بنتعرض للفيروس أو للمرض ده كتير جدًا زي ماوضحنا.
ذاكرة الجهاز المناعي
من حكمة ربنا سبحانه وتعالى الجهاز المناعي بتاع جسم الإنسان عنده حاجة أشبه بالذاكرة اللي بيسجل فيها معلومات عن الأمراض والفيروسات اللي إتعامل معاها قبل كده، وبيبقى محتفظ كمان بالروشتة اللي مشي عليها في الوقت ده، بمعنى إنه لو فيه فيروس جديد دخل جسم الإنسان لأول مرة بيبدأ الجهاز المناعي وخلايا الدم البيضاء يحاربوه لفترة طويلة وممكن الموضوع يستغرق عدة أيام أو حتى أسابيع، بس بعد ما بيتم القضاء على الفيروس ده، الأجسام المضادة اللي قامت بالمهمة وإتعرفت على طبيعة الفيروس وصفاته وكذلك طرق التعامل معاه بيبقى فيه بقايا منها بتفضل موجودة جوا الجسم، والهدف من الموضوع ده هو إن الجسم لو إتعرض للفيروس مرة تانية، يبقى قادر يفتكر طريقة مكافحته، وبالتالي الموضوع مايستغرقش وقت ويحصل بسرعة، وعلشان كده دايمًا أي مرض لما بيجيلنا للمرة التانية، بيستغرق في جسمنا وقت أقل بكتير جدًا من أول مرة تعرضنا له فيها، لحد ما بيوصل بينا الحال إن ممكن بعض الأمراض تدخل جسمنا والجهاز المناعي يتعامل معاها ويقضي عليها بدون أصلاً ما نحس باللي بيحصل وقبل حتى ما يظهر علينا أي أعراض خاصة بالمرض، الله.. طب ليه ده بقى مابيحصلش مع البرد، الإجابة ببساطة بتكمن في تعدُدِية الفيروسات اللي بتسبب البرد.
200 نوع!
للأسف الشديد الإصابة بالبرد مش مقتصرة على فيروس واحد بعينه، ولكن فيه أكتر من 200 فيروس مختلف ممكن أي نوع منهم يصيبونا بالبرد أو الزكام، فيه مثلاً الفيروس الأنفي أو الـ Rhinovirus، والفيروس المخلوي التنفسي أو الـ Respiratory syncytial virus (RSV)، والفيروسات التاجية وفيروسات نظير الإنفلونزا وغيرهم كتير، وكل فيروس من دول له أكتر من شكل وبيقدر يتحور لأنماط متعددة، إذًا الموضوع ماهواش مجرد فيروس واحد محدد، ولكن عشيرة كاملة من الفيروسات اللي بتسبب نفس المرض، وعلشان كده لو جسمنا قِدر يكتسب مناعة ضد واحد ولا إتنين من الفيروسات دي فمازال قدامه أعداد أكبر لسه ما إتعرضلهاش وتعتبر فيروسات جديدة تمامًا بالنسباله؛ وده السبب اللي بيخلي دور البرد يطول معانا أو إن البرد يجيلنا أكتر من مرة؛ لأننا في الغالب في الحالة دي بنكون بنتعرض لفيروس جديد علينا ولسه جهاز المناعة بيستكشفه، طب هل معنى الكلام ده كده إن جسمنا مش بياخد مناعة ضد البرد، في الواقع لأ، لو الفيروس دخل جسمنا مرة فده بيخلي جهاز المناعة يديله علامة ويعرفه ويحفظ كل بياناته، وبالتالي جسمنا بياخد مناعة ضد الفيروس ده؛ وعلشان كده لو صُدف إنك إتعرضت لنوع من فيروسات البرد كنت اتعرضتله قبل كده أو حتى نوع مُشابه له، فجسمك في الحالة دي هيتعامل معاه بسرعة شديدة ومش هتحس بحاجة، يعني ممكن وإنت قاعد معانا دلوقتي يبقى فيه في جسمك أحد فيروسات البرد وجهازك المناعي شغال بيحارب فيها وقضى عليها كمان وإنت مش حاسس بأي حاجة؛ وده ببساطة لأن النوع ده جسمك عارفه وتعامل معاه قبل كده، فنقدر نقول في النهاية إن الجسم فعليًا بيكوِّن مناعة ضد البرد ومناعة قوية جدًا كمان.
ليه مفيش لقاح للبرد؟
طيب دلوقتي بما إننا عارفين إن في 200 نوع من فيروسات البرد، فـ ليه بقى مايتمش عمل مصل أو لقاح للـ 200 نوع دول، وبالتالي نقضي على البرد تمامًا من العالم، الحقيقة تطوير لقاح واحد لـ 200 فيروس في نفس الوقت، فده أمر في غاية التعقيد؛ وده لأن الفيروسات مختلفة عن مُسببات الأمراض الأخرى اللي زي البكتيريا مثلاً، سَهل إن إحنا نعمل مصل أو مضاد حيوي نقضي بيه على أنواع عديدة من البكتيريا في نفس الوقت؛ وده لأن المصل في الحالة دي بيستهدف جدران الخلايا بتاعت البكتيريا أيًا كان نوعها وبيدمرهم كلهم، الفيروسات بقى ماعندهاش جدار خلوي أصلاً، وبالتالي بيبقى صعب إننا نقضي على مجموعة كبيرة منهم في نفس الوقت؛ لأن مفيش نقطة ضعف مشتركة نقدر نهاجمهم منها، كل فيروس بيبقى مختلف في نوعه وتركيبه، الموضوع محتاج إن إحنا نتعامل مع كل فيروس منهم على حِدا، وطبعًا الأمر ده مش مش منطقي وهيتم بذل جهد كبير جدًا وهيصرفوا مليارات الدولارات علشان يصنعوا مصل أو لقاح، بل إنهم حتى لو عملوا كل ده، فيروسات البرد بتطور من نفسها وبتتحول لأنماط جديدة، وبالتالي هنحتاج طول الوقت إننا نواكب الحور بتاعهم ونصنع لقاحات تانية، يعني مجهود إضافي وفلوس، وطبعًا موضوع زي ده بالنسبة لشركات الأدوية، مش جايب همه، البرد ماهواش مرض خطير وبيروح لوحده خلال عِدة أيام، والأفضل بالنسبالهم إنهم يخصصوا الجهد والأموال دي لأي مرض تاني مُستعصي؛ وعلشان كده علميًا مفيش لحد دلوقتي أي علاج للبرد، كل الأدوية اللي بنشوفها في الأسواق ومكتوب عليها إنها بتعالج البرد، فهي في الواقع بتعالج الأعراض الظاهرية فقط، لكنها ما بتقضيش على الفيروس نفسه، يعني يسكن الآلم وتقلل درجة الحرارة وبتوسع مداخل التنفس، لكن الفيروس بيبقى عايش عادي وبياخد الدورة بتاعته في الجسم، والجسم بيحاربه عادي بعيدًا عن الدوا.
كارثة المُضادات الحيوية!
وأخيرًا بقى على ذِكر موضوع الأدوية فيه تصرف خاطئ جدًا كتير من الناس بيعملوه أول ما بيجيلهم دور برد، والتصرف ده هو إنهم بياخدوا مضادات حيويةوبيكونوا معتقدين إنها هتخليهم يخفوا بسرعة، والموضوع دا الحقيقة يعتبر كارثة بكل المقاييس؛ البرد يعتبر عدوى فيروسية، والمضادات الحيوية بتكون فعالة فقط في حالة العدوى البكتيرية، ملهاش أي علاقة بالفيروسات، والأهم من كده إن المضادات الحيوية لما بتتاخد بدون داعي بتعمل تأثيرات جانبية في غاية الخطورة، زي مثلاً إنها تأثر على البكتيريا النافعة الموجودة في جسمنا وتقلل منها، أو إنها على النقيض بتعزز مقاومة أي بكتيريا ضارة موجودة في الجسم وتخليها تكتسب مناعة ضد المضادات الحيوية وما تأثرش فيها بعد كده، والمركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض أو الـ (CDC)
Centers for Disease Control and Prevention، بيقولوا إن تقريبًا من تِلت إلى نصف إستخدام الناس للمضادات الحيوية بيكون بدون أي داعي، والحالة الوحيدة اللي ناخد فيها مضاد حيوي أثناء نزلة البرد، هو إن دور البرد يكون مُصاحب لعدوى بكتيرية، والموضوع كمان يتم باستشارة طبيب.
نعمل إيه؟
وأخيرًا بقى فيه بعض النصائح السريعة كده اللي ممكن نعملها لما يكون عندنا دور برد، علشان نخفف من الأعراض بتاعته، وكمان نعزز جهاز المناعة ونقويه، أولًا لازم مانرهقش نفسنا ونحصل على قسط كافي من النوم، ولو نقدر إننا مانخرجش من البيت في الفترة دي هيكون شئ كويس جدًا منها إننا نرتاح ونتعافى ومنها إننا نقلل فرصة إنتقال عدوى البرد للناس اللي هنتعامل معاهم، ثانيًا المشروبات السخنة بتكون مفيدة؛ لأنها بتقلل من إحتقان الحلق وبترطب الجسم والبخار بتاعها بيساعد في إتساع فتحات التنفس في الأنف، ومش شرط المشروبات دي تكون ليمون دافئ فقط ممكن شوربة أو أي حساء مفيد، بالإضافة طبعًا للمياه والعصائر والخضروات والفاكهة، والعسل وغيرهم، ثالثًا نحاول طبعًا نتجنب القهوة والشاي، لأن الكافيين بيتسبب في جفاف الحلق، ونغسل إيدينا كويس بالمياه والصابون؛ علشان مانلقطش عدوى جديدة، والبرد في النهاية مرض بسيط ومفيش منه خطورة، إلا في بعض الحالات النادرة جدًا، وتمنياتنا بالشفاء للجميع.