من أوائل الأغراض اللي بيبحث عنها أي محتل لأي دولة هو الموقع الجغرافي، ولإن الموقع الجغرافي لجمهورية سريلانكا في المحيط الهندي موقع متميز، دا خلاها عُرضة للاحتلال من قبل الأوروبيين اللي بيتطلعوا لتوسيع سيطرتهم في المنطقة، ومع أواخر القرن الـ18 احتلت الإمبراطورية البريطانية جمهورية سريلانكا، واترتب عليه جلب الحكم الإمبراطوري للمؤرخ والباحث البريطاني”George Turnour”؛ بهدف البحث في طيات تاريخ المنطقة، والعمل على ترجمة تاريخها القديم من اللغة السريلانكية للغة الإنجليزية، وبناءًا على النصوص اللي تم ترجمتها تم اكتشاف والاستدلال على موقع قلعة مهيبة بتدعى “سيجيريا” بتبدو وكأنها مملكة أسطورية سقطت من السماء، في منتصف أحد السهول في شمال منطقة “ماتالي – Matale”، والقلعة دي تم إدراجها فيما بعد ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لليونيسكو، بس يا ترى إيه القلعة دي ومين اللي بناها، وليه أخدت المكانة دي وسط مواقع التراث العالمي؟!
ما ورائيات
بيعتقد المؤرخين إن البيئة المحيطة بصخرة سيجيريا السريلانكية اتأهلت بالسكان من عصور ما قبل التاريخ، وبيستدلوا على كدا بوجود أعداد كبيرة من الكهوف والملاجئ الصخرية في المنطقة المجاورة ليها، اللي سكنها الزاهدين والرهبان البوذيين من القرن التالت قبل الميلاد، وقام الرهبان دول بإنشاء المستوطنات الرهبانية في المنحدرات الغربية والشمالية للتلال المتناثرة حوالين صخرة سيجيريا، وتحت الصخور الكبيرة وفي جوانب أفواه الكهوف في المنطقة، لكن على الرغم من التوسع دا إلا إن الرهبان ما قربوش من صخرة سيجيريا اللي بيبلغ ارتفاعها حوالي 200 متر من سطح الأرض، واستمر الحال كما هو عليه لحد أواخر القرن الخامس الميلادي، اللي قرر فيه الأمير “كاشيابا – Kashyapa” (في ناس بتقول عليه “كاسابا” و”قصبة”) أمير سريلانكا -المتعطش للحكم وجمع الأموال- إنه يخون أبوه ملك البلاد وينقلب عليه ويقتله بمساعدة قائد الجيش، ولما اتوتر الحال خاف “موغالانا – Moggallana” (الوريث الشرعي للحكم) وهرب ونجا بحياته لجنوب الهند؛ خوفًا من الهجوم عليه وقتله من قبل كاشيابا.
وفي الوقت دا عشان يقدر كاشيابا يحافظ على حياته وعلى المُلك اللي بقى ملكه، كان لازم ينقل عاصمة سريلانكا ومقر إقامته من العاصمة التقليدية “أنورادابورا – Anuradha Pura” لسيجيريا (منطقة الرهبان والزاهدين) الأكثر أمان وتحصين، ولما كاشيابا بدأ في تنفيذ خطته بالفعل طور من سيجيريا وخلاها عبارة عن مدينة معقدة وهياكل دفاعية وقصور وحدائق، وقلعة مهيبة يسكنها.
واللي كان كاشيابا عامل حسابه عليه هو إن موغالانا -أخوه غير الشقيق، الأحق بالعرش- أكيد متعهد له بالانتقام، وبالفعل موغالانا كان بيستعد في الهند وبدأ في إقامة جيش وتدريبه على أعلى مستوى بنية العودة واستعادة عرش سريلانكا اللي اعتبره مُلكه المسروق؛ ولإن زي ما قولنا إن كاشيابا كان متوقع عودة موغالانا الحتمية للانتقام؛ فبنى قلعته -اللي هيسكن فيها وهتعتبر حصن ليه- بالكامل على قمة صخرة سيجيريا الضخمة صعبة الوصول، اللي صعب أي جيش يقدر يطلعها؛ لإنه عشان يطلعها محتاج يتخطى حوالي 1400 درجة سلم، ولما أخيرا أعلن موغالانا الحرب وخلال المعركة؛ اتهزم كاشيابا نتيجة تخلي جيشه عنه؛ ولإن كاشيابا أقرب للمهيبة وبيخشى العار، انتحر بخنجره فور هزيمته.
وبيحكي الفولكلور الشعبي السريلانكي باللي حصل أثناء المعركة أدى لتخلي جيش كاشيابا عنه، وهو إن كاشيابا غير مسار فيل المعركة اللي كان راكبه لتحقيق ميزة استيراتيجية؛ إلا إن الجيش أساء فهمه وأساء تفسير حركة كاشيابا واعتقد إنه تراجع؛ فتراجع هو كمان، ومات كاشيابا تارك وراه سيجيريا اللي بتعد واحدة من أعجب وأفخم القلاع في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو، واللي بييجي لها السياح من جميع أنحاء العالم، واللي هنزورها النهار دا ونعرف أكتر عن طبيعة حياة وشخصية وعبقرية كاشيابا من خلالها.
بين ثنايا سيجيريا
مع وصولك منطقة ماتالي وبالأخص في الشمال بالقرب من بلدة دامبولا – Dambulla” السريلانكية، وأول ما تقرب من محيط سيجيريا هتلاحظ إن تقسيمة الموقع هناك معقدة جدًا وخيالية، وبتجمع ما بين المنحوتات الصخرية الطبيعية النادرة جدًا وصنع الإنسان، وبسبب أسلوب العمارة الفريد دا بقت سيجيريا بتعتبر من أهم مواقع التخطيط العمراني في الألفية الأولى كلها، ومع بداية وصولك قلعة سيجيريا هيقابلك خندق مائي محيط بيها ملئ بالتماسيح عمله كاشيابا عشان يعمل كمصد أو درع أولي؛ لمحاربة الأعداء وشل تقدمهم وقربهم من الحصن.
وعلى الجانب الغربي من الحصن هنلاقي حديقة ضخمة، وفي حين إن سيجيريا والمنطقة المحيطة كلها زرع وفراديس وجداول مياه؛ إلا إنك هتقدر تميز الحدائق الخاصة بالحصن نظرًا لإنها متناسقة جدًا “فيما بين النباتات بأنواعها المختلفة، والجداول المائية المملوءة بمياه الأمطار والمياه الجوفية” بشكل يليق بكونها حدائق للعائلة الملكية عائلة الملك المهيب كاشيابا.
وبتنقسم حدائق قلعة سيجيريا لـ 3حدائق رئيسية، بتتكون الحديقة الأولى من قطعة أرض أشبه بالجزيرة محاطة بالمياه من كل الجهات، ومتصلة بالمنطقة الرئيسية من خلال جسور صخرية مع بوابات موضوعة على رأس كل جسر، والحديقة دي اتبنت على نظام شار “باغ(دي جيم “غ”) – Chahar Bagh”، ودا نظام بيتم فيه تصميم الحدائق بنظام رباعي الشكل ممزوج بجداول المياه، وبتعتبر الحديقة دي من حدائق سيجيريا واحدة من أقدم النماذج الباقية من التصميم دا.
أما الحديقة التانية فبتحتوي على بركتين عميقتين طوال، موجود بينهم مسار زرعي طويل ممزوج بالنوافير المكونة من ألواح الحجر الجيري الدائرية، واللي لا تزال بتعمل لحد النهار دا -خصوصًا في مواسم الأمطار اللي بتغذيها بالمياه-، وبالنسبة للحديقة التالتة فهي مبنية بنفس النظام الممزوج بالبرك المائية ولكنها بتقع على مستوى أعلى من الحديقتين التانيين.
والعجيب بقى إن كل الجداول والخزانات والحدائق المائية اللي أقامها كاشيابا ما كانتش مجرد مياه جوفية أو مياه أمطار في حوض مائي وخلاص؛ بل كان فيها أنظمة تبريد بتعتمد على قوة ضغط وحركة المياه اللي مع احتكاكها بهيكل الخزان أو الجدول المائي بتكتسب برودة ونقاء أعلى، ونظام التبريد دا بيعتبر من أوائل وأفخم أنظمة التبريد في العالم.
وأثناء ما أنت ماشي في الحدائق المائية دي، لو أطالت النظر على بعد أمتار منك هتشوف صخرة ضخمة غريبة ظاهرة من بعيد وكأنها بتعانق السماء في مشهد مهيب جدًا هيديك إحساس بإن الصخرة دي هي المُشرفة على كل حاجة موجودة حواليها، وبالفعل إحساسك صح؛ لإن الصخرة دي هي قلعة السماء؛ مملكة سيجيريا حصن الملك كاشيابا.
حصن كاشيابا
أول ما هتقرب من قلعة الملك كاشيابا هيقابلك 5 بوابات ضخمة على المداخل، وهتلاقي فيهم بوابة غربية مميزة ومفصلة أكتر بيعتقد إنها كانت بوابة مخصصة للعائلة المالكة، وأول ما هتقرب للبوابة دي هتلاحظ حاجة غريبة جدًا؛ ألا وهي حوافر، والمبهر بقى إن الحوافر دي أصلاً حوافر أسد منحوت، أو بمعنى أصح الصخرة كلها كانت بتجسد أسد، حاجة كدا شبه أبو الهول المصري؛ لكنه عبارة عن قلعة.
بس مع إن الصخرة كانت أصلاً منحوتة على شكل أسد -كان كاشيابا بيوصل بيه رسائل عسكرية مهيبة للخصم-؛ إلا إنك مش هتشوف من الأسد دا إلا الحوافر اللي على البوابة الملكية دي بس، ودا لإن جسم ورأس الأسد اتبدلوا وتم نحتهم بفعل عوامر التعرية اللي مرت بيهم القلعة على مئات السنين.
بوابة الأسد
وبعد مرورك من بوابة الأسد -أو أي بوابة حبيت تطلع من خلالها القلعة عموما-؛ هيقابلك درجات سلم متناهية الصغر، وهنا بقى أنت محتاج تاخد نفس عميق وتسمي اللٰه في قلبك، وتستعد لصعود حوالي 1400 درجة سلم، والحقيقة على الرغم من إن درجات السلم كتيرة جدًا؛ إلا إن رحلة صعودك هتكون رحلة خيالية ومش هتحس فيها غير بالاستمتاع، ودا لإنك أثناء ما أنت طالع بتشوف منظر طبيعي خيالي تحت، وكل ما بتطلع أكتر كل ما بتشوف المنظر دا كامل أكتر، وعمومًا السلم كمان مزروع عليه أشجار كتير والغطاء النباتي هيحاوطك من كل مكان؛ والمفاجأة بقى هو إن الأشجار دي مأوى ومجال ترفيه لعدد كبير جدًا من القرود بأنواعها اللي هيفضلوا يتنططوا حواليك وكإنك في غابة.
لكن ما تخليش القرود تلهيك عن المتحف الفني اللي أنت طالع جنبه؛ لإنك لو سيبت الشجر والقرود وبصيت على الحيطة اللي جنبك هتكتشف إنها مش مجرد حيطة صخرة؛ لكنها عبارة عن لوحة جدارية ضخمة جدًا بكبر الصخرة، واللوحة دي بقى اللي رسمها هو كاشيابا ذات نفسه، ولكن حاله كحال رأس الأسد زال كل دا بفعل عوامل التعرية، والجدار دلوقتي بقى مغطى جزئيًا بكتابات كتبها الزوار للقلعة؛ بعضها بيعود للقرن الـ 8 الميلادي، والكتابات دي كتبها الناس من مواضيع مختلفة زي الحب والسخرية والتجارب الحياتية بهدف التوثيق، وعشان الحكومة توثق الكتابات القديمة دي وتحافظ عليهاحذرت الكتابة على جدار القلعة؛ فللأسف مش هتقدر توثق حاجة خاصة بيك هناك.
بعد ما أخيرًا تخلص 1400 سلمه وتوصل لقمة الصخرة هتشوف مزيج عجيب جدًا بين السلالم المتبقية من أنقاض قصر علوي كان بيسكنه كاشيابا، وبرك وجداول مياه بعضها جاف وبيتملئ في مواسم الأمطار، وهتلاقي كمان صهاريج محفورة في الصخر متبقية من القصر الملكي، والأجمل من دا كله إنك هتقدر تشوف سيجيريا كلها بالأماكن المحيطة بيها؛ لإنك في أعلى وأهيب بقعة هناك.