في الأفلام وعلى شاشات التلفزيون، كتير مننا مر عليه المشهد التالي، شخص بيتخبط في دماغه وبعد ما يفوق من غيبوبة، نلاقيه بيسأل أسئلة زي، أنا مين، وأنتوا مين، أنا إيه اللي جابني هنا؟، وأسئلة من هذا القبيل.
فـ الشخص ده كده ومن غير أشعة ولا تحاليل، كلنا بنبقى عارفين إنه عنده فقدان في الذاكرة، وعلاجه من -وجهة نظر المؤلف طبعًا- إنه لازم يتخبط على دماغه مرة تانية، ووقتها كل حاجة هترجع لطبيعتها، وللأسف الصورة دي هي اللي إتبنت في أذهان البعض، وبقى عند عدد كبير من الأشخاص قناعة تامة بكده، بس ياترى إيه صحة الكلام ده، وهل فعلا العلاج بيكمُن في خبطة تانية ولا لأ، هل فقدان الذاكرة في الحقيقة هي نفس الصورة اللي بتظهر في الأفلام، ولا الوضع على أرض الواقع مختلف؟
فقدان الذاكرة
فقدان الذاكرة في حد ذاته بيُعتبر مادة قوية قام عليها عدد كبير من الروايات والأفلام، لكن بعيدًا بقى عن الأفلام، خلينا نقول إن فكرة إن شخص بعد تعرضه لخبطة قوية في دماغه، ينسى هويته وأهله وكل شئ مُتعلق بماضيه، فده في الحقيقة أمر نادر جدًا حدوثه؛ وده ببساطة لإن الذاكرة مهياش شئ واحد وبتنقسم لأكتر من جزء، وإصابات الدماغ في العادة مابتصبش الذاكرة كجزء واحد زي ما يهيئ لينا، ولكنها بتأثر على جزء أو جزئين على أقصى تقدير.
إصابات الدماغ مثلاً، مبتأثرش بشكل كبير على “الذاكرة طويلة المدى long-term memory”، ومعنى الكلام ده إن لو شخص حصلتله حادثة لا قدر الله وأصيب بإرتجاج، فمن الوارد جدًا إنه يفتكر حاجات من الماضي، وأيام المدرسة وأصدقاء طفولته وخلافه، لكن الجزء اللي بيتأثر فعلاً، وتأثره بيكون بدرجة كبيرة، هي “الذاكرة قصيرة المدى Short-term memory”، واللي مهمتها بتكمن في إنها تساعد الشخص في تخزين الأحداث الجديدة داخل يومه، فهنلاقي الشخص المٌصاب بيواجه صعوبة في إنه يتعلم ويفتكر المعلومات الجديدة، أو الأحداث الأخيرة اللي حصلت معاه، وبينسى تفاصيل كاملة حصلت في يومه، ومن ضمن المشاكل اللي واجهت أشخاص إتعرضوا لإصابات في الدماغ، إنهم كانوا بينسوا التفاصيل المهمة اللي بتدور أثناء كلامهم مع أصدقائهم، ومبيبقوش متأكدين من أي حاجة عملوها، فممكن جدًا يسألوا نفس الأسئلة ويعملوا نفس الحاجات، مـــرة وأتنيــن وتـــلاتة، والشائع جدًا إنهم بينسوا المكان اللي شايلين فيه متعلاقتهم، زي المفاتيح والموبايل وبغض النظر طبعًا إن الجزئية دي تحديدًا بتحصل معانا كلنا وإحنا سُلام أساسًا، لكن ده مش موضوعنا دلوقتي.
وبالإضافة للذاكرة قصيرة المدى، فيه نوع من الذاكرة، بيتأثر هو كمان لما الشخص بيتصاب في دماغه، والنوع ده هو “الذاكرة المُستقبلية Prospective memory”، واللي بتتلخص مهتمها في الـ “remembering to remember”، أو التذكير من أجل التذكر، يعني ببساطة كده الجزء ده هو المسئول إنه يفكر الشخص إنه يفتكر، هو اللي بيظبطلك خططك وجدولك واللي المفروض تعمله خلال يومك، ويفكرك إنك عامل جدول أصلاً.
وعلى الرغم من إن إصابات الدماغ بتأثر على الذكريات الجديدة أكتر من القديمة، زي ما وضحنا، إلا إن بعض الأشخاص بيواجهوا صعوبة أحيانًا، في إنهم يفتكروا بعض المعلومات الموجودة في الذاكرة طويلة المدى لكن على استحياء كده، يعني مثلاً تبقى عارف إن ده ابن خالتك، بس مش فاكر إسمه، وكمان من الشائع جدًا إنهم ينسوا الخبطة والحادثة نفسها اللي أثرت عليهم، واللي بيُطلق عليها ذاكرة الإصابة.
ومن الجدير بالذكر إن مش بس الإصابات المادية فقط هي اللي ممكن تأثر على الذاكرة أو تكون سبب في إضطرابها، لكن في عدد كبير من الأسباب ممكن يكونوا سبب في كده، ومن الأسباب دي؛ الأمراض النفسية.
هل الخبطة التانية هترجع الذاكرة؟
طيب كل اللي ذكرناه ده، كان بالنسبة للخبطة الأولى وتأثيرها على الذاكرة، نيجي بقى للخبطة التانية؛ عدد كبير من الأشخاص بيعتقدوا إن الخبطة التانية بتخلي الذاكرة ترجع لطبيعتها، وبالفعل إستطلاعات الرأي، اللي تم إجراءها على مجموعة من الأشخاص أظهرت إن حوالي 40% منهم، كان عندهم قناعة تامة إن لو شخص إتصاب بخبطة قوية على دماغه وفقد الذاكرة، فالخبطة التانية هي اللي هترجع كل حاجة لوضعها الطبيعي، بس ياترى إيه مَدى صحة الكلام ده؟
والحقيقة وعلى بلاطة كده، الكلام ده مُجرد أسطورة، ومالهوش أي أساس من الصحة، الضربة التانية أو الـ Double-conk لا بترجَّع الذاكرة، ولا بتصلح اللغبطة اللي بتحصل في حياة الشخص المُصاب، ولا أي حاجة من الكلام ده، بل على العكس كمان، الضربة التانية مش بس هتفشل في علاج أعراض فقدان الذاكرة، دي كمان ممكن تكون سبب في وفاة الشخص، وبالفعل لو شخص إتخبط على دماغه عِدة مرات، فـ فرصة وفاته بتكون عالية جدًا، وده لعدد من الاحتمالات، منها إن الدماغ بعد الخبطة الأولى بتبقى أضعف ما يكون، وبتدخل في حالة من عدم الإتزان، وكنتيجة للخبطة التانية أو خبطة كمان إضافية، بيبدأ الدماغ في التورم، وبسببه بتحصل الوفاة.
طب طالما الخبطة التانية مبتساعدش في حالات فقدان الذاكرة، وكمان إتأكدنا إنها ممكن تكون سبب في وفاة الشخص، ليه المُعتقد ده واخد كل الشهرة دي، وإمتى بدأ الإعتقاد بيه، وإزاي لحد اللحظة دي في ناس بتؤمن بمصداقية الكلام ده؟
تاريخ الأسطورة
بالرجوع للتاريخ، فـ اللي بتأكده عدد كبير من المصادر إن في بداية القرن الـ 19، بدأت الفكرة يتم طرحها في بعض الأفلام الصامتة وكمان في عدد من الروايات، بس اللي زود الطينة بله وزود من رسوخ الكلام ده في أذهان الناس، هو إن الفكرة كانت مدعومة في الأصل من بعض العلماء والأطباء اللي كانوا موجودين وقتها، ده غير إن كان فيه عدد من الكتابات العلمية ذاع صيتها في نفس الوقت، وكان محورها الأساسي عن الدماغ والذاكرة، وهي كمان أيدت نفس الفكرة بقوة.
ويُقال إن أول تأييد علمي للعلاج المزدوج أو العلاج اللي أساسه خبطه تانية على الرأس، تم نشره في بعض كتابات الطبيب الفرنسي
“فرانسوا إكزافييه بيشات Xavier Bichat Marie François”، وكان من ضمن معتقداته، إن الدماغ عبارة عن نصين مُتطابقين في التركيب وكذلك في الوظيفة، ومن المعتقد ده اتولد عنده فكرة إن لو شخص أُصيب في جانب واحد من رأسه، فبكده الدماغ هتفقد توازنها، وده اللي بيسبب الارتباك أو الإضطراب العقلي، والعلاج بقى في رأي بيشات كان عبارة عن ضربة للجانب التاني، وأرائه دي كانت نابعة اعتقادات مُشابهة كانت سائدة في أوائل القرن الـ 19، وكان مُلخصها إن الإرتجاج أو أي إصابة في الدماغ مابتسببش ضرر هيكلي أو عصبي، ولكنها بتأثر فقط على التفكير والذاكرة.
وضيف على كده إن في الفترة بين 1837 و 1901 كان العلماء بيبصوا للدماغ على إنه آلة، وكان من المنطقي جدًا بالنسبة لهم إن لو شخص حصل عنده أي خلل في دماغة نتيجة أي إصابة، فلو حركنا تروس الآلة دي شوية، كل حاجة هتظبط، زي بالظبط لما بتخبط أي جهاز عندك مرتين عشان يشتغل كويس.
وفضل الإعتقاد ده هو اللي سائد لحد مُنتصف القرن الـ19، ولحد ما بدأ عدد من العلماء المتخصصين في دراسة الذاكرة، يُدركوا إن أي ضربة على الرأس قادرة إنها تدمر قدرات الذاكرة تمامًا، وكذلك إن الضربة التانية ملهاش أي دور علاجي، بل إنها هتكون سبب رئيسي في حدوث الوفاة زي ما ذكرنا من شوية، لكن بسبب قوة المُعتقد وإن تم تداوله بشكل واسع ولفترة كبيرة، بقى صعب جدًا إن الناس تقتنع أو تصدق بعكس كده.
بَصيص من الجانب الإيجابي
طب هل معنى كده إن مفيش أي منفعة خالص خالص، حصلت من خبطات الدماغ، حتى لو على سبيل الصدفة؟، الحقيقة حصل بعض الوقائع، بس مكنتش خبطات على الدماغ بشكل صريح، ولكنها كانت عمليات جراحية داخل الدماغ أو إصابات طفيفة في الجمجمة.
كان في على سبيل المثال سيدة في عمر السبعين، أجرت عملية جراحية في دماغها بغرض استئصال بعض الأورام منها، والمدهش إنه بعد العملية، شخصية الست إتغيرت 180 درجة، وده بشهادة زوجها اللي عاش معاها أكتر من 50 سنة، الست كانت طول عمرها شخصية صارمة وحادة الطباع، ودايمًا بتبقى متعصبة وغضبانة وبتزعق لأي حد، لكن بعد ما أجرت جراحة في دماغها، حصل تغيير ملحوظ في شخصيتها، وقصة الست دي مكنتش هي الحالة الوحيدة اللي تتغير بالشكل ده، فيه دراسة تمت في عام 2007 على عدد من الجنود اللي بيعانوا من إصابات في الدماغ، وإكتشفوا إن الجنود دول، وغيرهم من الأشخاص اللي بيعانوا من تلف في بعض المناطق من الجمجمة، بقوا أقل عُرضة للإكتئاب مُقارنةً بقبل كده، وكأن الإصابة أثرت بشكل أو بأخر على المناطق المُتحكمة في العواطف، ولكن طبعًا الحالات دي وغيرها هي الشاذ بتاع القاعدة وليس الأصل، وما ينفعش أبدًا إننا نقلل من شأن خطورة إصابات الدماغ؛ لأن نتائجها في العادة بتكون سلبية وخطيرة.