“أعطي رجل سلاح ويمكنه سرقة بنك، أعطي رجل بنك ويمكنه سرقة العالم”
عبارة ملائمة جداً لما نتكلم عن أكبر وأهم سلالة مصرفية في التاريخ، ألا وهي عائلة روثشيلد .Rothschild
تعتبر عائلة روثشيلد أحد أكبر وأهم وأغنى العائلات على مستوى العالم، بل وفي التاريخ، أسياد اللعبة المالية والسياسية تحولوا في مرحلة من الزمن لمُحركي عرائس للحكومات والإمبراطوريات، وصفتهم الصحيفة الأمريكية Niles Weekly Register بطريقة بلاغية رائعة عام 1835 بالآتي :
“عائلة روثشيلد هي أعجوبة العمل المصرفي الحديث، يعلوا فوق الملوك و الأباطرة ويمسكون قارة بأكملها بين راحة أيديهم ويحملوا معها مفاتيح السلام أو الحرب”
ماضي العائلة مُحاط ببعض أغرب الحقائق اللي ممكن تتصورها على الإطلاق، وبعضها بيمثل أدلة دامغة على قدرة المال في التحكم بالسلطة بل وبمصائر دول وشعوب، ازاي بدأت أضخم سلالة مصرفية في التاريخ ولأي حد وصلت نفوذهم وثروتهم؟
تأسيس سلالة روثشيلد
بيرجع تاريخ تأسيس سلالة “روثشيلد” المصرفية للقرن الـ 18 ميلادياً على ايد الألماني اليهودي “ماير أمشيل روثشيلد” Mayer Amschel Rothschild، والمعروف باعتباره مؤسس النظام البنكي المعاصر وأحد أهم 10 رجال أعمال هم الأكثر تأثيراً على مر التاريخ طبقاً لإختيارات مجلة فوربس عام 2005.
وُلِّد “ماير” عام 1744 في مدينة فرانكفورت Frankfurt الألمانية، وبدأ حياته المهنية مع أبوه في الأعمال المالية وخاصة تبادل العملات ونظام القروض، واتعرف عن أسرته التعامل في العملات المعدنية النادرة والميداليات والتحف، وبعد وفاة والده وتوليه أعمال الأسرة في عام 1763، دخل “ماير” العمل المصرفي، وسمحلته المجموعة الواسعة من العملات النادرة بجانب مهاراته المالية، في توسيع معاملاته وخصوصاً بين الطبقة الأرستقراطية و النبلاء الأوروبيون، واللي استشفوا فيه مهارة خاصة في كل ما يتعلق بالمعاملات المالية وأسندوا ليه مهمة إدارة كافة حساباتهم، وفي وقت قصير بزغ نجم “ماير” وازدادت ثروته، ولما اتخذ قرار الزواج، تزوج من بنت مصرفي آخر ورزقوا بـ 10 أولاد، 5 منهم كانوا حجر الأساس في تأسيس امبراطورية مصرفية احتلت بيها عائلة روثشيد معظم أنحاء القارة الأوروبية.
استراتيجية موحدة
بعد إعدادهم للعمل المصرفي، أرسل “ماير” أبناءه الخمسة لتأسيس أنظمة بنكية في خمسة بلاد أوروبية عملاقة : النمسا، بريطانيا، فرنسا، ايطاليا بخلاف توسيع أعمالهم في ألمانيا، وبالرغم من بعد المسافة ما بينهم، إلا إن الأخوان الخمسة طبقوا استراتيجية موحدة ما بينهم، أهم قواعدها كانت الإلتزام بإقراض الطبقات الأرستقراطية والحكومات المحلية في بلدانهم والتقرب لأهل السلطة، يعني على سبيل المثال هنلاقي ان الأخ اللي راح فرنسا، أصبح هو المصرفي الخاص بالأمير ” ليوبولد Leopold” واللي أصبح فيما بعد أول ملوك بلجيكا، والأخ اللي في النمسا كان بيوفر القروض لآخر إمبراطور روماني مقدس “فرانسيس الثاني”، وفي عام 1818 منح “فرانسيس” الأخوان الخمسة لقب بارون Baron ، عشان توصل عائلة روثشيلد لطبقة النبلاء.
بل إن الأمر وصل بالعائلة ان أحياناً أخين بيساندوا طرفين متنازعين في نفس الوقت زي ما حصل أثناء الحروب النابليونية، وفي النهاية بينحازوا للطرف الأفضل بالنسبالهم، وانحيازهم ده، هو اللي بيرجح كفة عن كفة وبيحدد مصير الحرب.
دور العائلة في استقلال البرازيل
أحد الأدوار اللي لعبتها عائلة روثشيلد بفضل أموالهم ونفوذهم، كان استقلال البرازيل عن البرتغال في أوائل العشرينيات من القرن الـ 19، فبعد الاتفاق على دفع البرازيل لمبلغ قدره 2 مليون استرليني نظير انفصالها عن البرتغال وحصولها على استقلالها، تم تمويل المبلغ من من قبل العائلة وتحديداً من “ناثان روثشيلد” الابن التالت لـ “ماير روثشيلد”، وكان من ضمن الاتفاق إن البرازيل هتتحمل ديون البرتغال لعائلة روثشيلد، يعني العائلة كانت مسلفة البرتغال نفسها كمان، وبغض النظر عن الأرباح المادية اللي حصل عليها “ناثان” من فوائد القروض، إلا إن أرباح سلطته ونفوذه على مستوى المنطقة وإعلاء اسم عائلته كانت أكبر من أي أموال.
روثشيلد ومهام صندوق النقد الدولي
على مدار العقود اللاحقة، ومع سقوط أي حكومة أوروبية واستبدالها بأخرى، كانت عائلة روثشيلد أول حد بيظهر في الصورة عشان توفر القروض للحكام الجدد، وده اللي حصل بالضبط بعد الثورة الفرنسية التانية عام 1830، أو بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأنظمة القروض اللي اتبعوها عادت عليهم بأرباح خيالية في فترة قصيرة، الفرع المصرفي للعائلة في باريس على سبيل المثال، نمت أرباحه من ما يعادل 5 مليون دولار عام 1820 لأكتر من نص مليار دولار عام 1850، يعني ببساطة تقدر تقول ان فروع عائلة روثشيلد كانت بتقدم وقتها نفس الخدمات والدور اللي بيقوم بيه صندوق النقد الدولي النهاردة، لكن العائلة ما اكتفتش بالعمل المصرفي وأنظمة القروض اللي سيطرت بيها على حصة ضخمة من الاقتصاد العالمي، ولكنها توسعت في مجالات تانية كمان.
مجالات أخرى
على مدار القرن الـ 19 ميلادياً، توسع الأبناء الخمسة في أعمالهم الخاصة بخلاف العمل المصرفي وأنظمة القروض، بالإضافة لتجارتهم في سوق الذهب والمنسوجات، في عام 1868 دخلوا صناعة النبيذ و اشتروا واحدة من أشهر وأغلى شركات النبيذ في فرنسا، وفي عام 1883 دخلوا عش الدبابير مع محاولتهم منافسة عائلة ” روكفلر Rockefeller” في سوق النفط، وهي العائلة اللي كانت معروف عنها أنذاك احتكارها لسوق النفط الأمريكي بالكامل، وبعدها أصبحوا شركاء في مجموعة ” دي بيرز De Beers” المعروفة باحتكارها لأسواق الماس العالمية، ومعاهم شركة “ريوتينتو Rio Tinto” أحد أكبر شركات التعدين على مستوى العالم، وكل ده بخلاف مساهتمهم في تمويل مشروعات كبرى في معظم أنحاء العالم، من أهمها كان مشروع قناة السويس في ستينيات القرن الـ 19.
زواج الأقارب
وصلت ثروة عائلة روثشيلد في القرن الـ 19 لمستوى خرافي، لدرجة انها امتلكت أكبر ثروة خاصة لعائلة على مستوى العالم، وقيل عنهم انهم بيسيطروا على نص الأموال الموجودة في كل أنحاء المعمورة، وعلى عكس العائلات الكبيرة اللي بتزيد من ثرواتهم ونفوذهم بزواجهم من عائلات أخرى في نفس مستواهم الاجتماعي، روثشيلد كانوا في غنى عن أي ترابطات ممكن ترفع من وضعهم المالي أو تزيد من سلطتهم، اسم العائلة ونفوذها وصلت لمرحلة ان مافيش حد ممكن ينافسها من الأساس حتى ولو كانوا أباطرة، روثشيلد مش بس أقرضوا الأموال للعائلات الملكية، لكنهم كانوا بيتعاملوا كالملكيين نفسهم من خلال زواجهم من داخل العائلة، حفاظاً على ثروة العائلة ونقاء سلالتها وضع “ماير روثشيلد” قانون ضمني داخل العائلة بمنع زواج أولاده من أي حد من خارجها، بل انه كان بيهدد بحرمانهم من الميراث حال عدم انصياعهم لأمره وتفكيرهم بالزواج من خارج العائلة أياً كان اسم أو مستوى الطرف التاني.
سقوط فروع العائلة البنكية وأكبر فدية في التاريخ
مع استيلاء النازيين على النمسا وضمها لألمانيا عام 1938، اتعرضت أعمال فرع عائلة روثشيلد هناك لهزة قوية، واضطروا يصّفوا أعمالهم وممتلكاتهم بسعر بخس قبل ما يخرجوا من البلاد، وبالفعل استطاع معظمهم الهرب باستثناء فرد واحد منهم تم القبض عليه وهو المصرفي ” لويس ناثانيل دي روتشيلد Louis Nathaniel de Rothschild”، وعشان يُطلق النازيين سراحه، تم دفع فدية تعتبر في حينها هي الأكبر على الإطلاق في التاريخ بـ 21 مليون دولار عام 1939 أي ما يعادل النهاردة حوالي 370 مليون دولار، وأدى المبلغ الضخم للفدية بخلاف استحواذ النازيين على كل أعمالهم وممتلكاتهم ومقتنياتهم الفنية لإفلاس فرع العائلة في النمسا، وبعدها بكام سنة نفس اللي حصل في النمسا مع روثشيلد حصل بالنص تقريباً في باريس، ومن أهمية الأعمال الفنية اللي امتلكها فرع العائلة هناك، توجه هتلر بنفسه لمتابعة نقل الأعمال الفنية من ممتلكات روثشيلد واختيار بعضها بنفسه، ووصل حجم المقتنيات اللي استولى عليه الألمان من عائلة روثشيلد ما بين لوحات ومنحوتات وغيرها لأكتر من 5000 تحفة فنية، وبالرغم ان الفرع الفرنسي للعائلة استعاد بعض أعماله بعد نهاية الحرب، إلا ان الإشتراكيين الفرنسيين أمموا بنك العائلة عام 1981، وفي النهاية لم ينجو من فروع العائلة المصرفية في القرن العشرين إلا الفرع الانجليزي في بريطانيا.
ثروة روثشيلد
بالرغم من سطوتها وتحكمها شبه الكامل في الحياة السياسية والاقتصادية العالمية في الماضي، إلا إن عائلة روثشيلد النهاردة وبالرغم من كل غناها تعتبر شبح لما كانت عليه في الماضي، وعلى الرغم من انتشار أفراد العائلة في مراكز قيادية مؤثرة على مستوى الأعمال والنظام المصرفي العالمي إلا انك لو فتحت النهاردة قائمة Forbes لأغنى أغنياء العالم، مش هتلاقي حد من عائلة روثشيلد.
وفي حين ان الشائعات ونظريات المؤامرة مازالت بتحيط بالعائلة استناداً على مجدها السابق، إلا ان الواقع مغاير تماماً، ثروة العائلة الضخمة المُقدرة بحوالي 500 مليار دولار في المتوسط، موزعة على أعداد كبيرة من أفرادها وفروعها، وبالتالي لو نظرت لكل واحد ليهم على حدى من الصعب تقارنه بأغنى أغنياء العالم في وقتنا الحالي، وبعض النظر عن الثروة، فالسلطة المتوحشة اللي امتازت بيها العائلة قديماً ما تبقاش منها غير اثر هش في عالمنا النهاردة، لكن مازالت عائلة روثشيلد دليل دامغ على إدانة فساد السلطة بالمال، وإمكانية وقوع مراكز القوى الحقيقية في العالم ما بين أثرياءها، لا بين شعوبها وحكامها.