في عام 1867 قامت الإمبراطورية الروسية ببيع ولاية ألاسكا للولايات المتحدة الأمريكية، وكان هدف الإمبراطورية الروسية وضع الولايات المتحدة في طريق بريطانيا اللي كانت بتحكم الأراضي الكندية، ولو كان من الممكن تفهم الأهداف السياسية والعسكرية للحكومة الأمريكية في شراء ألاسكا؛ إلا أنه من الصعب تَفهُم إن مواطنين أمريكان سابوا بلادهم وراحوا عاشوا في آخر الدنيا قرب القطب الشمالي، مش كده وبس ده كمان اختاروا أكتر مكان منعزل في الولاية المنعزلة، والكبيرة بقى إنهم اختاروا يعيشوا كلهم في مبنى واحد.

مدينة ويتير Whittier

مدينة “ويتير Whittier”، هي مدينة صغيرة مساحتها حوالي 50 كم مربع بولاية ألاسكا، وتم تسميتها على إسم نهر جليدي قريب من المكان وهي مدينة شديدة إلانعزال بتحيط بيها الجبال والمياه من كل ناحية وكانت الطريقة الوحيدة للوصول للمدينة عن طريق البحر وكان من الممكن الوصول إليها فقط خلال فصل الصيف؛ لأن فيه باقي أيام السنة بتكون المياه متجمدة وغير صالحة للملاحة وبيتم عزل المدينة تمامًا عن باقي ألاسكا، يعني المدينة عبارة عن قلعة محصنة معزولة، وده بالفعل كان الغرض من إنشائها؛ فالمدينة تم تأسيسها كقاعدة عسكرية أمريكية وقاعدة لوجستية للجيش الأمريكي وبالفعل أدت ويتير مهمتها خلال الحرب بنجاح، وبعد إنتهاء الحرب العالمية التانية وتحديدًا في سنة 1948 بدأت إرهاصات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وزاد الاهتمام بميناء ويتير؛ لأن ولاية ألاسكا هي أقرب الأراضي الأمريكية للاتحاد السوفيتي وبيفصلها عن الأراضي الروسية فقط 83 كم من المياه؛ فقررت الحكومة الأمريكية إقامة حامية عسكرية للإنذار المبكر.

وبالفعل بدأ العمل في أنشاء “مبنى باكنرBuckner Building” مبنى شديد التحصين ومقاوم للقنابل، وهو عبارة عن ثكنة عسكرية لإيواء وتدريب الجنود، وكان بيمثل المرحلة الأولى لأبنية مشابهة هيتم انشاءها فيما بعد، وكان مخطط الإنتهاء من المبنى العسكري الأول خلال خمس سنوات من بدء المشروع؛ وعشان كده تم التفكير في بناء برج لإقامة المهندسين وعمال المشروع، بإلاضافة لاستضافة عائلات وأسر الجنود، وبالفعل تم البدء في بناء مبنى مدني تاني مقاوم للزلازل والقنابل ومكون من 14 طابق قرب الميناء وأطلقوا عليه إسم “مبنى هودج Hodge”، وهو الإسم اللي هيتم تغييره سنة 1972 لإسم “برج بيجيتش Begich Towers”، وقامت الحكومة الأمريكية بحفر نفق في الجبال لإمداد المدينة بخط سكة حديد؛ لتسهيل عملية نقل الإمدادات والمعدات للمدينة؛ فقام المهندسون باستخدام الديناميت لتفجير طريق يبلغ طوله 4 كلم في عمق الجبال وتم الانتهاء من الأعمال سنة 1953، وقامت ويتير بالمطلوب منها بنجاح حتى عام 1964، وهي السنة اللي حصل فيها أقوى زلزال في تاريخ ألاسكا وأمريكا كلها وأدى لموجات تسونامي ضخمة ووصلت قوة الزلزال لـ 9.2 درجة على مقياس ريختر، ورغم القوة الرهيبة دى إلا إن الأبنية المحصنة صمدت تمامًا ولم يتوفى إلا 13 إنسان كانوا خارج المباني، ومع الظروف الجديدة دي وكمان الهدوء اللي ساد الحرب الباردة تم إلغاء المشروع وتقرر إنهاء الوجود العسكري بمبنى باكنر؛ فاستمر المبنى في العمل حتى عام 1966 قبل أن يتم إخلاؤه.

إخلاء مبنى باكنر مكانش له تأثير على حياة عائلات الجنود والمهندسين اللي استقروا في برج بيجيتش، وأنشأوا أسواق ومحلات تجارية ومدرسة وقسم للشرطة وقسم للإطفاء وكنيسة وبنك ومكتب للبريد، بل وفندق صغير سعته 30 غرفة، وكل ده تم انشاؤه في أدوار المبنى المكون من 14 دور، وقام الأهالي البالغ عددهم أقل من 300 إنسان بعمل إكتفاء ذاتي، ومع الوقت بدأت مدينة ويتير وأخبارها يلفتوا انتباه الناس اللي كان عندهم فضول يشوفوا المدينة المعزولة اللي سكانها كلهم عايشين في مبنى واحد واللي قدرت مبانيها تتحمل أقوى زلزال في تاريخ أمريكا، وبالفعل تحولت المدينة لمزار سياحي من الدرجة الأولى، بل أصبحت السياحة بتمثل 38% من دخلها، وبدأت الرحلات البحرية بالسفن الكبيرة تزور المدينة واللي بلغ عددها 40 سفينة سنويًا، ولك أن تتخيل سفينة عدد ركابها 4000 إنسان بيزوروا مدينة كل سكانها أقل من 300 نسمة، وده الأمر اللي أدى لزيادة النشاط السياحي والتجاري وإنشاء مطاعم وكافيهات ومنتجعات على ميناء المدينة.

أما الطريقة التانية اللي بيتم بيها زيارة المدينة فبتكون عن طريق النفق وخلال الجبال بالقطار أو السيارات الخاصة، وبتبدأ الرحلات خلال فصل الصيف في طريق ساحر من المناظر الخلابة وسط الجبال والغابات والمساقط المائية، والرحلة بالعربية أو بالقطر داخل النفق لوحدها مغامرة بتستمر من 6 لـ 10 دقائق حسب السرعة المحددة بالرادار.

ميناء ويتير

ورغم وجود فندق صغير ببرج بيجيتش، إلا أنه نادرًا ما بيكون فيه مكان فاضي خلال فصل الصيف؛ لأنه بيتم حجز الغرف قبلها بشهور، ولذلك بيزور ويتير محبي التخييم ومالكي الكرفانات، والمدينة على صغرها إلا أنها بتتميز بوفرة وتعدد النشاطات السياحية، فبعد المرور من النفق بيقابل الزوار ميناء ويتير، وهو الميناء المليان بقوارب الصيد والرحلات وبيعد مكان مثالي لهواة صيد الأسماك؛ لأنه بيشرف على واحد من أغنى مصائد الأسماك البحرية على خليج ألاسكا، وبتقدم المطاعم المنتشرة في الميناء خدمة جميلة وهي تأجير القوارب والخروج في رحلات الصيد وبعدين طهي الأسماك الطازجة اللي تم صيدها، وكمان بتنتشر مكاتب الرحلات بالقوارب لمشاهدة الأحياء المائية اللي بتزور المدينة خلال فصل الصيف، زي الحيتان والفقمات وثعالب البحر، وبتتوقف الرحلات البحرية على الجزر المنتشرة لمشاهدة الدب الأسود والماعز الجبلي والنسور والصقور، وبيستمتع السياح بعد الرحلات البحرية بالقعاد في المقاهي والمطاعم المطلة على الميناء وتناول الأسماك.

وبالإضافة للرحلات البحرية بتنتشر رياضة التزلج على الجليد ومش بينسى السياح طبعًا زيارة برج بيجيتش ومقابلة السكان اللي بيرحبوا بالسائحين خلال فصل الصيف وبيعتبروا نفسهم في خدمة الزوار، ودايما بتتكرر الأسئلة عن طبيعة المكان والهدف من الاستمرار بالمدينة.

أهل مبنى ويتير

بتقول “اتا لوسيفا Ata Iosefa” عضو مجلس المدينة، أن المصالح الحكومية كلها بالأدوار الأولى وبعدها المحلات والأسواق، وأن السكان مش بيحتاجوا يخرجوا خارج المبنى لشهور وإن السر ورا كده إن فصل الشتاء بيكون طويل وبتكون الطرق كلها مقفولة بالثلوج، وكمان بتتجول الدببة القطبية خلال الشتاء البارد؛ وبالرغم إن الجميع عايشين في مبنى واحد لكن طلبات الدليفرى مش بتنقطع.

أما “أيركا تومسون Erika Thompson”، فهي مدرسة بالمرحلة الابتدائية بالمدرسة، وبتقول إن الجميع بالمبنى عائلة واحدة وده اللي وفر رقابة رائعة على التلاميذ اللي بيحبوا المدرسة وبيعتبروها بيت ليهم، وقالت إيركا إنها عاشت في مدينة كبيرة وكان الذهاب للمدرسة بيتطلب منها سفر للوصول، أما في ويتير فكل اللي بتحتاجه خمس دقائق للوصول بينها وبين أي حاجة.

ومن أغرب التعليقات اللي صدرت من أحد السكان السيدة “جين ميلر June Miller”، من سكان المدينة وبتقول إن مدينة ويتير لمن يحب حياة الصخب والناس، فبتقول إنها كانت من سكان سياتل وكان الناس في حالة انعزال وكل واحد مهتم بشغله وحياته، وأنه كان بيمر عليها أيام وأيام من غير ما تتكلم مع حد، أما في ويتير فالجميع يعرف بعضه وأى شئ بيحصل لحد من أهل المدينة بيكون كل الناس جنبه ودايمًا موجود أصدقاء في أي وقت من اليوم، بإلاضافة إن المدينة بتعتبر مضادة لـ اللصوص، ففي خلال فصل الشتاء محدش بيدخل المدينة أصلاً، أما في الصيف فبيتم دخول المدينة من النفق اللي له رسوم وبيتم فيه الاطلاع على الأوراق الشخصية لضمان دخول الأشخاص المناسبين.