عبارة “رب ضارة نافعة” هي عبارة تم التأكد منها بطرق كتيرة، فالكوارث الطبيعية مثلاً بتوحد الناس وتظهر قيم التعاون بينهم، والحروب رغم الدمار اللي بتسببه؛ إلا أنها واحدة من أسباب ظهور كتير من الابتكارات العلمية والطبية اللي أنقذت حيوات أكتر بكتير من اللي ابادتهم.

ابتكارات طبية

واحدة من التقديرات الموثوقة بتشير لوفاة حوالي 3% من سكان العالم بسبب الحرب العالمية التانية، وعلى الرغم من ضخامة النسبة دي اللي بيمثلها ملايين الضحايا؛ إلا أنه وكسبب مباشر للحرب العالمية التانية تم تطوير عقار البنسلين وبدأ عصر المضادات الحيوية، وبتقدر منظمة الصحة العالمية مساهمة المضادات الحيوية في إنقاذ حوالي 14% من سكان العالم سنويًا، وبالتأكيد طبعًا الحرب في حد ذاتها مكانتش مرحلة من مراحل التخطيط لإنتاج المضادات الحيوية، لكنها على الأقل كانت سبب قوي في الاكتشاف المبهر ده.

وتبدأ قصة اكتشاف البنسلين مع العالم البريطاني السير “الكسندر فلمنج Alexander Fleming” خلال فترة عمله بمختبره بمستشفى سانت مارى بلندن في ليلة من خريف سنة 1928، ففي خلال محاولاته استزراع كميات من البكتيريا لإجراء بعض الدراسات لاحظ إختفاء واحدة من المزارع اللي كان بينتجها، ومع تركيز الميكروسكوب على طبق البكتريا اللي كانت تحت الدراسة لاحظ ظهور عفن أخضر صغير بيختفي من المنطقة المحيطة بيه كل أشكال البكتيريا، ومع استمرار الدراسة تبين لفلمنج أن العفن الأخضر ماهو إلا نوع من أنواع الفطريات اللي تسللت لطبق البكتيريا، وعلى مدار أسبوعين بذل قصارى جهده في التأكد من فائدة الفطر ده في محاربة البكتيريا، وأصبح بما لا يدعو مجال للشك إن الفطر ده بيفرز مادة سماها الـ”Penicillin” وهي عبارة عن مادة حيوية قادرة على القضاء على البكتيريا العنقودية الضارة.

وفي النهاية نشر فلمنج اكتشافه في الأوساط العلمية وكانت العقبة الوحيدة اللي قابلته ومكانش عنده وقت لحلها، هي مشكلة استخلاص المادة دي وبكميات وفيرة لاستخدامها تجاريًا، واستمرت المشكلة دي قائمة لسنوات كتير ومكانش بيتم رصد الميزانيات العلمية الكبيرة لمحاولة تطوير تقنيات تساعد على فصل البنسيلين من الفطر، لكن مع بداية الحرب العالمية التانية وتكاثر العدوى البكتيرية اللي حصدت أرواح ملايين الجنود والمدنيين؛ قررت حكومات الحلفاء توجيه جهودها للبحث العلمي وتم حشد مئات العلماء والأطباء بكل الميزانيات المطلوبة؛ لمحاولة استكمال اللي بدأه فلمنج.

وأخيرًا، جه الفرج على يد مجموعة من العلماء اللي تبادلوا الحصول على أهم الجوائز العلمية، وكان أهمهم أصحاب نوبل الكيميائية البريطانية “دوروثي هودجكين Dorothy Hodgkin”، والطبيبان الأمريكيان “هوارد فلوري Howard Florey” و “إرنست تشاين Ernst Chain”، ومعاهم كتير من العلماء اللي نالوا أرفع الجوائز العلمية في الطب والكيمياء، واللي كان لكل واحد فيهم دور في الوصول للهدف النهائي وهو إنتاج البنسلين بكميات كبيرة.

والتجمع العلمي الكبير ده أكبر الأثر في فوائد تانيه كتير ظهرت على هامش البحث الرئيسي، فعلى سبيل المثال تم ابتكار السرنجات البلاستيكية اللي بتستعمل مرة واحدة بس واللي كان ليها برضه أكبر الأثر في الحماية من تناقل العدوى بين الأعداد الكبيرة من المصابين، وغير سرنجات الحقن البلاستيكية ظهرت كتير من المبتكرات الطبية واللي بقت بعدها جزء لا يتجزأ في الحياة الطبية؛ لدرجة إن حفاضات الأطفال والنساء كانت نتيجة غير مباشرة للابتكارات اللي كانت بتحاول التوصل لوسائل للسيطرة على الدماء المراقة في ساحات القتال.

منتجات صناعية

مش بتقتصر المنتجات اللي ظهرت كنتيجة للحروب على المنتجات الطبية لوحدها، لكن كمان كان للحرب أدوار كبيرة وأحيانًا مباشرة في كتير من الابتكارات الصناعية اللي بيتم استخدامها بصورة دورية في وقتنا المعاصر زي الاسمدة الكيماوية وأفران المايكروويف والأشرطة اللاصقة وغيرها كمان، الأسمدة الكيماوية وتعتبر الحرب العالمية الأولى سبب مباشر في انتشارها على مستوى العالم، وهو الاكتشاف اللي كان له أثر كبير في عمليات إعادة الإعمار خاصة بعد هلاك آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية بسبب الحرب، والحقيقة أن الفكرة النظرية نفسها عن فوائد الأسمدة الكيميائية للتربة ومساهمتها في الإنتاجية وزيادة المحصول، كانت فكرة معروفة نظريًا لكن كانت تفتقر للآلة الضخمة اللي عندها القدرة على احتواء التفاعل الكيميائي وظروف الحرارة والضغط العالي اللي التصنيع ده بيحتاجه، وبتمويل من الحكومة الألمانية قدر 2 من العلماء الألمان إنهم يوصلوا للمطلوب وهم “فريتز هابر” و “كارل بوش”، والاتنين دول ابتكروا ما يعرف بعملية هابر- بوش “Haber-Bosch process”، وهي العملية اللي مبني عليها فكرة عمل الآلة المطلوبة، واللي لولا الحرب كان هيفضل سر احتكاري بتستفيد منه ألمانيا وحدها، لكن ومع قيام الحرب بعد الاكتشاف مباشرة تم تسخير كل الإمكانيات والمصانع والحديد لأعمال الحرب وتم إلغاء الفكرة مؤقتًا، ومع إنتهاء الحرب وألمانيا انهزمت؛ لجأوا للتفاوض وكان من أعضاء الوفد الألماني خلال “مفاوضات فرساى”، العالم كارل بوش واللي عرض على قوات الحلفاء خلال التفاوض اطلاعهم على سر تصنيع الآلة اللي مش شأنها أنها تطعم الملايين الجائعين عن طريق زيادة إنتاجية الأرض، وده طبعا هيكون في مقابل بعض المكاسب لحكومة ألمانيا، وهو الاقتراح اللي قابل ترحيب كبير من دول الحلفاء، وهابر وبوش اللي كانوا ساهموا في صنع بعض الأسلحة الكيماوية تم مسامحتهم وحصلوا على جائزة نوبل أيضًا.

أما بالنسبة لأفران الميكرويف ففي خلال محاولات الفيزيائي الأمريكي “Percy Spencer” تطوير وحدة رادارية للاستفادة منها في أعمال الحرب، لاحظ ارتفاع درجة الحرارة وافترض أن الموجات الدقيقة بتولد الحرارة، واستمر في إجراء تجاربه اللي أسفرت في النهاية عن إنتاج أول جهاز مايكروويف في العالم سنة 1955.

وعلى نفس طريقة الميكروويف اكتشف العالم الأمريكي “روي بلانكت Roy Plunkett” مادة التفلون أو التيفال، وهي المادة المستخدمة في كتير من الابتكارات الحديثة، وخاصة دورها الشهير في طلاء أواني ومقالي المطابخ العصرية، وده لأن مادة التفلون مش بتتفاعل مع الدهون أو المياه، بالإضافة لتحملها درجات الحرارة العالية نسبيًا، لكن المهم طبعًا إننا نعرف إن الدكتور روى بلونكت مكانش قلبه رهيف وبيفكر في المطابخ وراحة ست البيت والكلام ده كله، إنما الدكتور بلانكت كان عضو فب مشروع مانهاتن الشهير اللي انتج القنبلة الذرية، وكان كل هدفه هو إنتاج بوليمر جديد يكون عنده القدرة على تحمل الإجهاد الحراري والكيميائي؛ لاستخدامه في أعمال الحرب، وهو الابتكار اللي تم استخدامه دلوقتي في أغلب المطابخ لو مكنش كلها.

السيدة “فيستا ستودت Vesta Stoudt”، هي أمريكية وكانت بتشتغل في مصنع لإنتاج الذخائر والمتفجرات بولاية الينوى بالولايات المتحدة الأمريكية، ولاحظت فيستا إن المصنع بيقوم بإرسال خراطيش النار وغيرها من الذخائر في صناديق ورقية أو خشبية مغطاة بالشمع في محاولة لمقاومة للمياه والرطوبة، وهى الطريقة اللي كانت بتتسبب في كتير من الأحيان لتعرض الذخائر والمعدات للتلف، وفكرت السيدة فيستا في طريقة للعزل وهي الفكرة أنها تبتكر شريط لاصق قوي المقاوم للمياه، وكان الشريط مصنوع من الصمغ والمطاط والقماش وكان الابتكار ناجح جدًا لدرجة أن الجنود استخدموه في مختلف الأغراض زي لصق الأنابيب وتثبيت الأسلحة وترقيع الثقوب والملابس وحتى الأحذية، وتم إنتاج كميات كبيرة وأشكال أكتر من الأشرطة اللاصقة اللي مازلنا بنستخدمها لحد النهارده.

منتجات غذائية

المنتجات الغذائية كانت جزء لا يتجزأ من الحرب، من أشهر المنتجات الغذائية اللي كانت بسببها الحرب هي البطاطس المقلية سريعة التحضير، وهي النوعية اللي مشهور بيها المطاعم زي مطاعم ماكدونالدز، والبطاطس المقلية دي اشتركت كل الحروب الكبيرة في تعزيز إنتاجها، تبدأ القصة خلال أواخر القرن الـ 17 على نهر “الميز Meuse” المشترك بين الحدود البلجيكية الفرنسية، اشتهر السكان اللي على ضفاف النهر أصحاب بابتكارهم في طريقة جديدة للسمك وهي القلي، ومن كتر إعجاب الأهالي بطريقة القلي بالزيوت للأسماك، كانوا بيجربوا قلي كتير من المأكولات، ومع التجربة وصلوا ألذ المأكولات المقلية في الزيت على طريقة السمك هي البطاطس، ومن يومها بقت البطاطس المقلية من الأكلات الشعبية لبلجيكا وفرنسا، وخلال الحرب العالمية الأولى وتورط الولايات المتحدة الأمريكية على الجبهة البلجيكي كانت بتتبعت البطاطس المقلية لمعسكرات الجنود واللي أعجبوا جدًا بطعمها، وكانت الواقعة دي سبب في انتشار البطاطس في أمريكا كلها فيما بعد.

لكن ونتيجة لبعض الظروف البيئية كانت البطاطس الطازجة بتفسد بسرعة، ده غير إن وقت إعدادها كان طويل نسبيًا؛ وعشان كده فكر رجل الأعمال الأمريكي “جون ريتشارد سيمبلوت John Richard Simplot”، والملقب ببارون البطاطس في أمريكا في ابتكار يساعد على حل المشكلة دي؛ فقام سيمبلوت بإبتكار طريقة البطاطس المجففة نصف الجاهزة، وكان للابتكار ده صدى كبير في أمريكا بعدما تعاقدت سلسلة من المطاعم مع شركة سيمبلوت لتوريد النوع العملي ده من البطاطس، وهو الأمر اللي أدى في النهاية للانتشار فى كل انحاء العالم.

كمان من المنتجات الغذائية اللى تسببت الحروب فى انتشارها هي المكرونة الشعرية سريعة التحضير والمعروفة بالإندومي، نسبةً لمخترعها “مومو إندو”، وهو من مواليد تايوان وقت ما كانت جزء من الإمبراطورية اليابانية، وحضر اندو أهوال الحرب وشاف الخراب اللي عم كل أنحاء البلاد، وتأثر جدًا من تدافع الناس في طوابير ضخمة أمام محلات البقالة؛ للحصول على بعض الحصص الغذائية واللي من ضمنها كمية قليلة من المكرونة المحببة عند الشعب الياباني؛ ونتيجة لخبرته كمالك لإحدى الشركات الغذائية قدر في النهاية إنه يوصل لمكرونة رخيصة وسريعة التحضير ومختلفة النكهات، واللي اشتهرت في كل أنحاء العالم فيما بعد بالإندومي واللي لولا معاناة اليابانيين من نقص الغذاء في الحرب ربما مكانتش ظهرت أبدًا ولا انتشرت في الأسواق العالمية.