الموز من أكتر الأغذية المُحببة عند كتير من الناس، والموز غير فوائده الصحية وطعمه المميز، فهو كمان يتميز بعدد من المفاجأت، فالمفاجأة الأولى مثلاً إنه لا يُعد من الفواكه؛ فالموز مجرد نوع من أنواع النباتات العشبية، إنما أهم المفاجأت إن كل أنواع الموز المتوفرة في الأسواق حاليًا محدش من الأجداد عرفها ولا داق طعمها.

الفترة الذهبية للموز

تعتبر الفترة الذهبية لزراعة وتجارة الموز هي الفترة اللي انحصرت بين نهايات القرن الـ19 وأوائل القرن الـ 20، والفترة دي كان الموز فيها يعتبر حاجه كده زي النفط والغاز، بل إن الموز في الوقت ده ونتيجة الرغبة في الاستحواذ على السوق العالمي واحتكار النوعية دي من التجارة تسبب في كتير من المشاكل والتوترات اللي وصلت لحد الانقلابات السياسية؛ فالموز كنبات استوائي أكتشفه الإنسان من أكتر من خمس آلاف سنة في ارخبيل الملايو بجنوب شرق آسيا، لكنه وصل للأمريكتين في وقت متأخر جدًا مع بدايات القرن الـ16 الميلادي، وكان دخول الموز للأمريكتين عن طريق العبيد الأفارقة اللي تم جلبهم مع الغزاة الأسبان؛ لتعمير العالم الجديد، وكان الأفارقة بيقوموا بزراعة الموز في الأراضي اللي بيشتغلوا فيها، وكان الهدف من كده إنهم يعتمدوا عليه كنوع من أنواع الغذاء المساعد؛ وأدت الزراعات الأفريقية دي لانتشار مزارع الموز في مناطق الغابات المطيرة بأمريكا اللاتينية كلها، وأثبتت كل المناطق نجاح كبير في الزراعة، وتميزت المحاصيل بالجودة والوفرة، لكن على الرغم من النجاح الكبير وإعجاب الجميع بالمنتج الجديد واللي اعتبروه أحد الفواكه؛ إلا أن وصول الموز لأمريكا الشمالية وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية تأخر كمان 200 سنة تانيين، وكان دخول الموز للولايات المتحدة الأمريكية على يد مجموعة من رجال الأعمال الأمريكان بولاية بنسلفانيا، ورجال الأعمال دول كانوا بالفعل يمتلكوا عدد من شركات استيراد وتصدير الفواكه، وكانوا بيقوموا برحلات عمل دورية لأمريكا اللاتينية، وخلال أحد الزيارات في سنة 1870، اكتشفوا انتشار واسع لمزارع الموز، وقرر تلاته من الأصدقاء استيراد كميات من الموز على سبيل التجربة لمنتج جديد من المحتمل نجاحه، وبالفعل بعد انتشار الموز في أسواق فيلادلفيا حقق المنتج الجديد نجاح ممتاز وكان له رواج هائل، وكانت النتيجة إختفاء كل الكميات المستوردة بأسرع من اللي كان متوقع، وساعتها قرروا إعادة التجربة واستيراد كميات أكبر من الموز للمرة التانية، وبرضه اختفت الكميات من الأسواق بمجرد عرضها للبيع، وكانت المشكلة المرة دي من غير حل؛ وده ببساطة لأنه مكانش فيه كميات تانية متوفرة لإعادة شحنها.

منظمة الأخطبوط

كمجموعة من رجال المال والأعمال بيبقى انتهاز الفرص للاستثمار هو الهدف الأول دائمًا، فمع نجاح فكرة بيع الموز في الأسواق الأمريكية مكانش من المقبول إن كمية محصول الموز الصغيرة تبقى هي العائق أمام الاستثمار، فعلى طول قرر رجال الأعمال إنهم يجمعوا رؤوس أموالهم وقاموا بشراء الأراضي في الغابات المطيرة لبلاد الكاريبي اللي بتوجد فيها زراعة الموز بجودة عالية، وطبعًا سبقت خطوة شراء الأراضي تجميع الجهود والأموال في شركة واحدة عملاقة وسموها “شركة الفواكه المتحدة United fruit company”، والشركة دي حققت مكاسب وأرباح مالية من وراء تجارة الموز تضاهي أرباح أقوى الثروات الطبيعية، ومع التدفق المهول ده للأموال بدأت الأرباح متقتصرش على تجارة الموز لوحدها، فمساحة المزارع والأراضي الضخمة تحتاج طبعًا مساكن لإيواء المهندسين والعمال والفلاحين اللي بيشتغلوا في الأراضي؛ فكانت الفرصة مناسبة أن الشركة تدخل في الاستثمار في قطاع الأراضي والإنشاءات والعقارات لدرجة أن الشركة أثرت على التركيبة السكانية في بلاد زي جواتيمالا والهندوراس؛ وتسببت في خلق اضطرابات في سوق العمل في عدد من بلدان أمريكا الوسطى؛ بالإضافة بقى إلى أن الموز اللي بيتم نقله بالكميات الكبيرة دي مبقاش يقتصر على السفن والطرق البحرية لوحدها، لكن كمان بدأت الشركة في مشاريع الطرق وخطوط السكك الحديدية؛ لزيادة حجم النقل بالطرق البرية وكل ما كبر حجم التجارة وتدفقت الأموال؛ كل ما زاد نفوذ وقوة الشركة وقدراتها على شراء الذمم، لدرجة أن شركة الفواكه المتحدة تحولت لمنظمة سيئة السمعة بسبب محاولاتها المستمرة في التأثير على الحكومات للاستيلاء على الأراضي ومضاعفة مزارع الموز، والشركة اللي كانت مجرد واحدة من شركات استيراد وتصدير الفواكه بقت معروفه بمنظمة الأخطبوط؛ وده طبعا في إشارة لأذرع الشركة المنتشرة في أمريكا اللاتينية كلها، وبلغت قوة الشركة إنه وصل حد التأثير لمستوى رؤساء الدول ومن أشهر الرؤساء دول كان رئيس الهندوراس “Manuel Bonilla”، واللي كان من أكتر المتعاونين مع المنظمة، واللي وصل حجم الاعتراض على سياساته لعزله من منصبه ونفيه بعد التورط بالفساد في بيع الأراضي للشركة الأمريكية.

جروس ميتشيل ولا كافنديش

خلال الفترة اللي توحشت فيها منظمة الأخطبوط دي، كانت عمليات التخريب الواسعة للغابات المطيرة لحساب محصول الموز وحده بتجرى على قدم وساق، والمشكلة إن الإجراء ده يعتبر بالنسبة للزراعة إجراء في منتهى الخطورة، وده لأنه بيحرم الغابات من التنوع البيولوجي اللي بيساعد على استقرارها ومقاومتها للآفات والأمراض، والمشكلة الأكبر إنه كان يتم التركيز على نوع واحد بس متطابق وراثيًا من فصائل الموز، وهي الفصيلة المعروفة بإسم “جروس ميتشيل Gros Michel”، ونوع الموز ده كان بتتميز زراعته بغزارة الإنتاج وسرعة جني المحصول، واللي تجدر الإشارة إليه هنا بقى إن النوع ده من الموز هو نوع مختلف تمامًا عن كل الأنواع اللي إحنا سمعنا عنها واتعودنا عليها، وده ببساطة؛ لأن كل الأنواع المتداولة في الأسواق حاليًا بترجع لفصيلة واحدة مختلفة إسمها “كافنديش Cavendish”، وهو الموز اللي نشأنا عليه، والفصيلة دي وإن كان بتتميز زي سلفها بالمذاق الطيب؛ إلا أن تكلفة زراعتها ونقلها وتخزينها تعتبر تكلفة مضاعفة، وطبعًا ده يطرح سؤال بديهي عن سبب اللجوء للفصيلة الأكثر كُلفة دي.

فطر الفوسيريام

في استطلاع رأي قام به موقع “Pro Musa”، المختص بتحسين محصول الموز عن طريق تبادل الأخبار والمعلومات، وضح الموقع أن نتائج الاستطلاع على عينة من خبراء التذوق اللي قالت رأيها في أنواع الموز، أن 46% من النتائج أيدت أن المذاق الأفضل كان لصالح موز جروس ميتشيل، بينما 38% بس هم اللي إدوا أصواتهم لصالح الموز الحالي كافنديش، أما النسبة الباقية فاعتبرت أن النوعين في نفس المستوى.

لكن على كل حال وبما إنه مش متاح لينا إننا نختبر الطعم بنفسنا، فالأفضل إننا نكتفي بالمعلومات عن الموز اللي نعرفه، واللي إسمه “كافنديش Cavendish”؛ فالنوعية دي تم زراعتها للمرة الأولى سنة 1960، وكان السبب في زراعتها هو شبه انقراض النوع المعروف بإسم “جروس ميتشيل Gros Michel”، وهو النوع اللي تم القضاء عليه عن طريق مرض الـ”Fusarium الفوسيريام”، واللي بيتسبب فيه فطر بيحمل نفس الإسم، وكان انتشاره راجع لانعدام التنوع البيولوجي في أماكن الزراعة، والمرض ده كان بداية ظهوره في مزارع دولة بنما؛ واشتهر بإسم مرض بنما، لكن بعد كدا انتشر المرض في باقي أمريكا اللاتينية كلها، وكانت خطة المنظمة هي الاستفادة من علاقاتها الواسعة وشراء أراضي ومزارع جديدة بعيد عن مناطق الوباء؛ عشان يعني تقدر تعيد فيها الزراعة مرة تانية، وبما أن المنظمة تاريخها كله أسود ومتعودتش أبدًا تشتري حاجه بتمنها الحقيقي فمش معقول يعني بعد الخسائر الكبيرة دي تشتري بالغالي، لكن المشكلة انه في خلال الوقت ده اللي تلى نهاية الحرب العالمية التانية كانت دعاوي الديمقراطية وتطهير الفساد بقت حركات واسعة وبتنتشر في العالم كله، وكان واضح جدًا إن عقول وأفكار الشعوب والمؤسسات بدأت تتغير، الأراضي اللي كانت بتحصل عليها المنظمة زمان برخص التراب مبقتش موجودة دلوقتي مع الحكومات الجديدة.

رئيس جواتيمالا

“ياكوبو أربينز Jacobo Árbenz” رئيس حكومة جواتيمالا الجديدة، كان واحد من اللي دخلوا في صراعات كبيرة مع المنظمة؛ وكان أول قراراته هي رفضه القاطع لأي نشاط للمنظمة على أراضي بلاده، ومع عجز المنظمة في التأثير على الرئيس، لجأت لحيلة تكبيد نظام دولة جواتيمالا المبالغ التعويضية الطائلة نتيجة توقف الأعمال فكان رد الرئيس وحكومته هو عرض شراء كل الأراضي والمزارع المملوكة للمنظمة وإعادة توزيعها على السكان المحليين، وكان العرض لشراء الأرض بناءًا على الأسعار الموضحة والمكتوبة في السجلات والأوراق الرسمية، لكن طبعًا زي ما قلنا كانت كل الأراضي بلا استثناء أسعارها مزيفة، وطبعًا الأرقام المعلنة كانت أقل كتير من قيمة الأرض الحقيقية ودي طبعًا كانت مشكلة تالته للشركة، فالمشكلة الأولى كانت خسارة المحصول، والتانية عدم النجاح في شراء أراضً جديدة، وأخيرًا الشركة هتخسر الأراضي القديمة بأسعار رخيصة، وطبعًا دي كانت خسارة مش مستعدة لها الشركة وكانت النتيجة هي الرد القوي من أباطرة المنظمة وإطاحتهم بالرئيس نفسه من الحكم، لكن برضه رغم قوة منظمة الأخطبوط الكبيرة دي إلا إن حجم التجارة والأعمال مرجعوش أبدًا زي الأول، ومع الوقت وزيادة الوعي عند الناس وكمان ظهور عدد من الشركات المنافسة، بدأت شركة الفواكه المتحدة تضطر إنها تعمل إصلاحات كتير في هيكلها الإداري والتنظيمي، وكمان قامت بتغيير إسمها من الفواكه المتحدة لشركة “شيكتا Chiquita”، ومازالت لغاية انهاردة شركة Chiquita واحدة من أكبر 5 شركات لتجارة الموز على مستوى العالم، لكن الفرق المهم إن المعاملات أصبحت تتسم بالنضافة بعدما تم التخلص من عصر الموز الأسود.