بالرغم من القوة العسكرية اللى كانت تتمتع بها الدولة الأسلامية فى عصر العباسيين، إلا إن الخلفاء بدأوا فى الاهتمام بالبناء وتشجيع العلم والعلماء، وكان واحد من أهم الخلفاء هو الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد، واللى فى عهده تم انشاء أضخم دار علمية وهى الدار الشهيرة بدار الحكمة أو مكتبة بغداد.

هدية هارون الرشيد لشارلمان

الخليفة العباسى الخامس هارون الرشيد كان واحد من أعظم الخلفاء المسلمين على مر التاريخ، وشهدت الدولة الاسلامية فى عهده رخاء وقوة وعز، ويمكن تكون قصة الهدية الشهيرة من هارون الرشيد لشارلمان واحدة من أبلغ الصور اللى بتلخص الفترة دي، فالملوك فى العصور القديمة اتعودوا إنهم يتبادلوا الهدايا ما بينهم وبين بعض، وكانت الهدايا دى مش بتعنى بس المجاملات، فعظم الهدية فى حد ذاته كان بيعبر عن قوة المملكة اللى جاية منها، وعشان كده لما بعت امبراطور الشرق هارون الرشيد هدية لامبراطور الغرب شارلمان Charlemagne، كانت هدية جميلة عبارة عن ساعة ضخمة من النحاس بيبلغ طولها 4 متر كاملين.

والساعة دي كانت بتشتغل بالقوة المائية، وكل ساعة تمر كان يسقط منها عدد من الكرات المعدنية على قاعدة من النحاس، وكان صوت إرتطام الكرات المعدنية مع القاعدة بيعمل رنين وصدى صوت جميل، بالاضافة كمان إن الساعة كانت بتشمل على 12 باب لحجرات صغيرة، وبرضه كل ساعة تمر كان يخرج من واحد من الابواب فارس ويدور دورة كاملة وبعدين يرجع للحجرة بتاعته، ولما تيجى الساعة 12 يخرج 12 فارس مع بعض، وطبعا كانت هدية زي دي فى الوقت ده، كانت لشارلمان وحاشيته أشبه بالسحر، ونتيجة لكده خاف شارلمان ورجالته من الهدية، بل كمان اعتقدوا ان الساعة دى مسحورة بالفعل، وده السبب اللى خلاهم يكسروها، لكنه اكتشف انها مش مسحورة ولا حاجة، كل اللي اكتشفوا من الموضوع إن هو وقومه في مكانة وأصحاب الهدية في مكانة تانية خالص.

إنشاء دار الحكمة

الإسلام من أيامه الاولى سعى بكل قوة للقضاء على الجهل والأمية، وفى أولى الغزوات الإسلامية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم بيعفي عن أسرى المشركين، إذا استطاعوا إنهم يعلموا حد من المسلمين القراءة والكتابة، العلم كان هو الفداء، والهدف مش بيقتصر على طلب العلم وبس، بل إن نشره كمان كان على نفس الدرجة من الأهمية، وتحقيق الهدف ده كان بيتطلب بالبديهة استيعاب كل علوم وخبرات الأولين، وفى الوقت اللى كانت فيه اوروبا غرقانة فى عصور الجهل والظلام، كان من الطبيعى إن الدولة الاسلامية تعتمد على نفسها وجهود علمائها، وكان مطلوب من الدولة الاسلامية انها تفهم كمان طريقة وثقافة الناس المعاصرين، وطبعا من أهم العلوم اللى بتطلع البشر على الثقافات والخبرات والمعارف سواء السابقة او المعاصرة هى علوم الترجمة، عن طريق الترجمة من الممكن الاطلاع على علوم القدماء والاستفادة من النافع منها، وعن طريق الترجمة برضه هنقدر نفهم عادات وتقاليد المعاصرين واختيار الطرق المناسبة لدعوتهم، فكان كتير من علماء المسلمين وخاصة اللى أسلموا من أماكن مختلفة عن الدول العربية هم نفسهم القائمين على حركة الترجمة دي، فكان المسلم من بلاد الفرس والهند أو السِند وكل الأعاجم، بيتعلموا اللغة العربية عشان يفهموا الدين وعلومه، وفى نفس الوقت كانوا بيقوموا بترجمة كتب علمائهم وتاريخهم كله للعربية، أما المسلمين اللى من أصل عربى فكانوا موسوعيين، وكانوا بيتعلموا برضه لغات غيرهم من الشعوب والأعراق المختلفة وفى النهاية يقوموا بنفس الجهود اللى بيقوم به المسلمين الأعاجم، وعشان كده دار الحكمة اللى أنشأها هارون الرشيد، كانت من أعظم المنارات العلمية، ولم تقتصر فوائدها فقط على مئات الآلاف من الكتب و المجلدات والمخطوطات، إنما كانت مساهمتها الأكبر هى إنها ملتقى العلماء من كل الأعراق والثقافات، وكان الكل بيشتغل مع بعضه والكل بيتعلم من بعضه وكان من الطبيعى فى بيئة علمية ثرية زى دى يتم انتاج الأفذاذ والأعلام، واللى يعتبر حصرهم فى بعض الأسماء ما هو إلا ظلم فرضه علينا المساحة القصيرة للمقالة وكذلك وقت الحلقة على القناة.

الخوارزمي

من أشهر علماء العصر الذهبي الإسلامى اللى استفاد من مجلدات الأقدمين بدار الحكمة، هو العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، والخوارزمي واحد من اللى جسدوا فكرة العصر الذهبية، فزى ما هو باين من أسمه، نشأ محمد بن موسى فى اقليم خوارزم واللي هو حالياً أوزبكستان، والرجل ده أتعلم من مجموعة كتب عالمية بمعنى الكلمة، كتابات الفارسيين والمصريين والبابليين واليونانيين والرومان، وكل علوم وثقافات الأقدمين، والخوارزمي نفسه كان عالم موسوعى، زيه زى كل علماء العصر الذهبى الاسلامى، إنما طبعا كان علم الجبر هو إبنه البكر وهو العلم اللى اتشهر بيه بعد كده، وكمان إشتهر محمد بن موسى بخوارزمياته اللى بيتم استخدامها لحد النهاردة فى احدث العلوم، فالخوارزمى قدر إنه يفهم قوة المتغيرات اللى بتعتمد فكرتها العامة على معالجة الرموز لايجاد حلول عامة تشتغل مع أى أرقام، ده غير طبعا مساهماته فى حل المعادلات الخطية والتربيعية.

بنو موسى

بالرغم من القيمة العلمية المرموقة لبنى موسى، إلا إنهم مش بالشهرة اللى عليها علماء كتير من العصر ده، فبنو موسى نموذج رائع لفريق علمي متكامل من عصر النوابغ الإسلامية، فالأخ الأكبر محمد كان من الأفذاذ فى علوم الفلك، أما أحمد الأخ الاوسط فكان نابغة فى علم الميكانيكا أو زى ما كان معروف وقتها بعلم الحِيّل، أما الأخ الثالث الحسن فكان يعتبر الوريث الحقيقى لعلم الخوارزمي فى الرياضيات، والـ 3 اخوة نشأوا فى بغداد خلال القرن الثالث الهجرى، وانشغل الاخوة بتجربة وتطبيق كل المعارف العلمية القديمة، وأضافوا على كل العلوم من جهودهم وخبراتهم، وقدروا يحولوا الكلام النظرى اللى عثروا عليه فى كتابات من سبقوهم، لتطبيقات وأجهزة بيتم استخدامها على أرض الواقع، وكمان قدم الاخوة كتاب شهير معروف باسم كتاب الحِيّل.

كتاب الحِيّل

كتاب الحيل لبنو موسى هو عبارة عن شروح تفصيلية لحوالى 100 جهاز ميكانيكي، ومضمن مع كل جهاز الشرح الوافي والرسوم التوضيحية لطرق التركيب والصنع والتشغيل، وزى ما قلنا ان الحيل فى العصر ده كان المقصود بيها علم الميكانيكا المعاصر، اما عن حيل بنو موسى بقى اللى استمرت لعصرنا الحالى، فكانت مجموعة من المبادئ الاساسية اللى قامت عليها كتير من الآلات الميكانيكية الحديثة، بالاضافة لكتير من الأجهزة اللى بتعتمد على علم سكون السوائل وعلم حركة الهواء والصمامات ذاتية التشغيل، وهى المبادئ اللى ليها كتير من التطبيقات فى عصرنا الحالي، وأشهرها مثلا عامود الكرنك اللى فى السيارات الحديثة، بالإضافة كمان للنوافير الراقصة الموجودة بالأماكن السياحية، ده غير بقى تصميمهم لكتير من الأجهزة الترفيهية اللى بتعتمد فى جوهرها على سحر العلوم ومبادئها الاساسية، على سبيل المثال وليس الحصر، صمموا جهاز سموه القمقم المسكون.

القمقم المسكون

وهو عبارة عن إناء بأنبوبتين، لو صبيت فى الأنبوبة الأولى مياه ساخنة والأنبوبة التانية مياه باردة مش هيختلطوا مع بعض، وكمان لما تيجى تصب المياه مرة تانية هتخرج المياه السخنة من مكان تخزين المياه الباردة، وهتخرج المياه الباردة من مكان تخزين المياه السخنة، وغير القمقم المسكون ده قدم بنو موسى كتير من الاجهزة اللى ليها بعض الفوائد غير الإبهار.

السراج المنير

ومثلا عندك المصباح السحرى ده أو السراج المنير زي ما أشتهر فيما بعد ، فالعالم كله إستمر يشتغل بيه فى عصر ما قبل الكهربا، بل إن كتير من القرى لغاية انهارده مازالت بتستخدم لمبة الجاز الشهيرة القائمة على نفس فكرة العمل، والجرة الذكية دي بقى بنلاقيها فى أحدث خلاطات المياه، واللى بتعتمد فكرتها على تدفق المياه ثوانى معدودة وبعدين تقف المياه لوحدها للتوفير، ولو أحتجت مياه مرة تانية تضغط مرة كمان وهكذا.

الجرة الذكية

تكافؤ الفرص

على عهدة الباحثيين الغربيين، فـأهم الأسباب اللى أدت لعصر العلم الإسلامى الذهبي، كان تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص لكل الراغبين فى تلقى العلوم، فعلى عكس كل الحضارات والثقافات اللى سبقوا الإسلام، مكانش فيه أى مدارس خاصة للفقراء وغيرها للأغنياء، ولا كان فى مجالس للسادة وغيرها للعبيد، ولا كان الأبيض بتتاح ليه فرص أكبر فى تحصيل العلم من الأسود، فقضية تحصيل العلم والمساهمة فيما ينفع الناس ده شيئ كان مكفول للجميع بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو العرق أو اللون، وفى دراسة لهارفارد سنة 2015 أثبت القائمين على الدراسة إن الابحاث اللى قامت عليها أعراق مختلفة كانت الأبحاث الاكثر نجاح، فتم حصر ألاف الأوراق العلمية اللى اتقدمت فى الفترة بين 1985 و 2008كانت النتيجة ان 80% من الابحاث والاوراق اللى اتكتب ليها النجاح، هى الأبحاث اللى كان بيقوم عليها فريق باحثين مكون من أعراق مختلفة، فالدراسة بتقول إن تعدد الثقافات بيقدم عدد أكبر من الفرضيات، وفى نفس الوقت بيؤدى التنوع ده لعدد اكبر من الإعتراضات، وهو فى النهاية الامر اللى بيثرى البحث العلمى وبيساعد على تطويره، والمسلمين كانوا سابقين العالم كله بمراحل فى النقطة دي.