الشعور بوجود الله سبحانه وتعالى شعور متأصل في نفس الإنسان، ولو افترضنا إن في مجموعة من الناس نشأوا معزولين عن أي أتصال بالعالم الخارجي غالبًا هيتم طرح أسئلة بديهية من نوعية إحنا هنا إزاي، ومين اللي جابنا هنا، واللي جابنا هنا عايز مننا إيه، ومع مرور الوقت إذا لم يصلو لإجابة عن طريق رسالة هيضطروا يخترعوا هما الإجابة في محاولة للراحة من الإلحاح الفطري اللي جواهم.

ثقافة شعبية

لا شك أنه لفت نظر الكثير مننا الصورة النمطية التي تعرضها السينما عن صورة الإفريقي العاري الملئ بالاصباغ على وجه وجسمه بالكامل، وغالبًا يكون مُرتدئ أجزاء من هياكل الحيوانات، ومتواجد معه مجموعة مختلطة من الناس بنفس الهيئة، ودائمًا تراهم يقومون بحركات هيستيرية راقصة على إيقاع الطبول وصفير الابواق، وقتها لا نعلم بالظبط معنى تلك الممارسات الغريبة؛ فبتتعدد التفسيرات ما بين إن تلك الممارسات عبارة عن احتفالات شعبية أو ممارسات عقائدية وثنية، والغريب إنك حتى لو سألت بعض المُمارسين الأصليين لذلك النوع من الشعائر هتسمع في كل مرة تفسير جديد ومختلف عن التفسير اللي قبله، ويرجع الاضطراب في تفسير تلك المظاهر الغريبة لكون إن التفسيرات الأصلية نفسها أصبحت من الأسرار، والسبب في ذلك يرجع إلى إنه من فترة طويلة وتحديدًا بعد انتشار تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي بدأ المستعمر الأوروبي إنه يصدر القيود الصارمة حوالين اللغة والمعتقد والثقافة الأصلية، وهو الأمر الذي أدى مع الوقت لاختفاء الأصول القديمة.

الكاهن الأعلى

يعتبر ماكس بوفوارعالم الكيمياء الحيوية صاحب الأصل الإفريقي من أشهر كهنة الفودو، وتوفى ماكس سنة 2015 في عمر الـ79، وكان خلال حياته يعتبر الكاهن الأعلى للفودو الإفريقي، وهو واحد من الذين حملوا لقب “خادم لوا الأعلى”، ومن الممكن جدًا اعتبار واحد مثل بوفوار مَرجع أو مصدر لمعرفة بعض الحقائق عن الفودو، لكن أيضًا غير بوفوار من الممكن الاستفادة من شهادات الاكاديميين المُحايدين المهتمين بدراسة عقائد الأفارقة مثل الدكتور “بوب كوربيت Bob Corbett” أستاذ الفلسفة والثقافة السابق بجامعة ويبستر بولاية ميسورى الأمريكية.

بالإضافة لشهادات بعض الموثقين للممارسات على الطبيعة منهم الكاتبة والمصورة الأمريكية “لين ووربرج Lynne Warberg”، والمهتمة بالثقافات والجماعات الأصلية، ومن خلال شهادات مجموعة السابقة نستطيع أن نأخذ فكرة محايدة عن حقيقة الفودو وبعض الممارسات الشعبية.

الفودو

الفودو هو عقيدة وثنية ظهرت من حوالي 6 آلاف عام في غرب أفريقيا وتحديدًا في “داهومي” المعروفة ب”بنين” الحالية، وانتشرت تلك العقيدة في البداية في عدة دول أفريقية مثل “توجو وغانا ونيجيريا”، لكن عندما بدأ المستعمر الفرنسي عملية استعباد الأفارقة ونقلهم للعمل بالسُخرة في العالم الجديد، أخذ الأفارقة معاهم معتقداتهم ونشروها في مناطق كثيرة، ويقول الكاهن ماكس بوفوار إن مع وصول الأفارقة للعالم الجديد تم فرض قيود كبيرة على لغاتهم وثقافتهم وعقائدهم، وتم فرض قوانين على ملُاك الأراضي الأوروبيين بحتمية تنصير العبيد الجُدد الذين يعملون في أراضيهم وهو الذي أدى مع الوقت لاختلاط كثير من الشعائر الكاثوليكية مع شعائر الفودو الأصلية، ويستكمل بوفوار شهادته ويقول أنه حتى الآن يحتفل مُعتنقي الفودو بأعياد بعض القديسين المسيحيين، كما يبدأ “الفوديست” – تابعي الفودو – شعائرهم بآداء الصلاة الكاثوليكية وآداء بعض الترانيم الإنجيلية، ويقول بوفوار إن تلك الحكاية لا تمثل أي مشكلة ولا تتعارض مع عقيدة الفودو الأصلية، وهي مبدأها الأساسي إن كل شئ روح، والأرواح يوجد منها الذي يسكن العالم المرئي مثلنا، وأيضًا يوجد منها من يسكن العالم الخفي المعروف بعالم “اللوا lwa”، والأرواح التي تسكن العالم الخفي دى هى أرواح الأجداد والسابقين الصالحين، وهي الأرواح الخالدة التي لديها القدرة على المساعدة أو المُعاقبة، وتلك الأرواح يحاول الفوديست استرضاءها بالقرابين والتضحيات؛ ويرجع السبب إنه على حسب اعتقادهم تلك الأرواح تمثل الوسائط لنقل الدعوات والتمنيات للاله “بوندى Bondye” الكبير، وهو يعتبر المتلقي النهائي لجميع الصلوات والقرابين، وهو ما يتم التعبير عنه أو تجسيده بصورة أو تمثال لأفعى ضخمة وعادة في بداية الشعائر يقوم الحاضرين بالرقص والحركة ويكون الهدف هو الوصول لحالة من النشوة تجعلهم ينفصلون عن العالم المرئي ويلتحموا بأسلافهم من الموتى في العالم الخفي، وخلال الحركة والرقص والموسيقى يتم أداء بعض الصلوات وتوزيع اللعنات على الأرواح الشريرة ويتبع كل ذلك ذبح الأضاحي مع عملية نثر للدقيق أو الذرة على الأرض؛ تكريمًا لأرواح السابقين، وهم يمكن أن يكونوا أجداد من الصالحين أو ممكن طبعًا يكونوا من الأرواح الأصلية للفودو ومن أهمهم روح الأم العظيمة “إيرزولي Erzuli” وعادة ما تحضر وبتتلبس بواحدة من النساء الحاضرات، وعلى حسب معتقد الفوديست تستطيع الأم ايرزولي إنها توزع البركات والعطايا، كما تستطيع أن تشفي المرضى وتقوي المحاربين وتنصر الضعفاء.

شهادة لين ووربرج

بالنسبة لمراقبة الفوديست الكاتبة “لين ووربرج Lynne Warberg”، فهي تؤكد تمامًا على شهادة بوفوار، وقالت إنها خلال مراقبتها لمدة عقد من الزمان لشعائر الفودو في “هاييتي” تأكدت تمامًا من مقولة شائعة وهي أن 70% من سكان هايتي كاثوليك، و30% بروتستانت، و100% فوديست، وهو في إشارة لاختلاط عقائد الفودو مع عقائد الأوروبيين من سكان العالم الجديد، وتؤكد ووربرج على إن الناس بالفعل أصبحو لا يعلمون ما هو الصحيح والخاطئ وما هي العقيدة الأصلية وما هي البدعة، وأضافت إن البعض يمارس بعض البدع دون معرفة فائدتها أو تصنيفها، ومن أشهر البدع التي التصقت بالفودو هي بدعة غرس الدبابيس في دُمى من القماش أو الصلصال، ويعتقد بعض الأهالي إنها طريقة تتيح لهم إلحاق الأذى بالأعداء.

وتحاول ووربرج تبرير تلك الأفعال بتعرض العبيد للظلم والاضطهاد والتغييب عن العقيدة الأصلية، وتقول إن تلك الممارسات ما هي إلا إشباع نفسي بالانتقام من المستعمر، وتختم ووربرج شهادتها بتفهمها لسلوك هؤلاء البشر، أما ما يصعب عليها فهمه هو إلصاق التهم المبالغ فيها بمعتنقي الفودو دون مُبرر، ومن تلك التهم ما يُقال عن كهنتهم إنهم قادرين على تحويل الناس إلى موتى أحياء أو زومبي، وتقول إن التهم وصلت لحد الاعتقاد بإن سحرة الفودو مسئولين عن بعض الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين.

شهادة الدكتور بوب كوربيت

أما الدكتور بوب كوربيت يقول إن كلمة الفودو هي بمعنى روح في لغة الفون المحلية التي كانت مستخدمة في داهومي القديمة، وأما عن ارتباط الفودو بالسحر والشعوذة، لا ينفي الدكتور كوربيت عن الفوديست المسئولية، ويقول إنه على الرغم من إن الموضوع بدأ من أعداء الفودو على شكل محاولة تسفيه وتنفير للناس منه، إلا إنه أدى في النهاية لشهرة المعتقد وانتهز البعض منهم تلك الفرصة وتم تحويل الأمر لتجارة مُربحة.

فعلى سبيل المثال يشير الدكتور كوربيت لسوق “أكوديساوا Akodessawa”، والتي تعتبر أكبر مكان في العالم لتوفير احتياجات ممارسي السحر والشعوذة، ويُقام سوق أكوديساوا في العاصمة لومي بتوجو الأفريقية، ويحتوي السوق على رؤوس القرود وجماجم الطيور والتماسيح، بالإضافة لمجموعة من الهياكل العظمية والجلود لمختلف أنواع الحيوانات الأفريقية، ويدعي السوق امتلاكه لكافة أنواع الأعشاب والتعاويذ الخاصة بحل كل المشكلات، وتتعدد النوعيات التي ترتاد السوق ما بين ناس من العامة تبحث على حل بعض المشاكل، بالإضافة لكثير من السياح والزوار الباحثين عن المغامرة وإرضاء الفضول، وطبعا كلها عوامل جعلت المستفيدين من تجارة سحر الفودو لا يهتمون بأي اتهامات ممكن يتعرضوا ليها؛ لأن تلك الاتهامات في النهاية تمثل لهم نوع من أنواع الدعاية.

ويؤكد الدكتور كوربيت إن ديانة الفودو لا تقتصر فقط على ممارسة السحر، لكنها عبارة عن نظام أخلاقي شامل ينتقل عبر الأجيال من خلال الأمثال والقصص والأغاني والفلكلور، ويقول الدكتور كوربيت إن كل ما تم إلصاقه بالفودو هو في النهاية له أصل في المُعتقد، وبما أن عقيدة الفودو هي روحانية في المقام الأول سوف نرى إن أصحابها يفسرون كل الظواهر الطبيعية على إنها أفعال “اللوا”، وهو تحديدًا الذي جعل البعض يعتقد إنهم السبب في الكوارث مثل الزلازل والبراكين، ويختم كوربيت شهادته في إنه رغم كل شئ وفي جميع الأحوال يُدين عدم احترام الفودو في السينما والروايات الشعبية، وخصوصًا إن مُعتنقي الديانة على مستوى العالم على حد قوله يصل عددهم إلى ما يقرب الخمسين مليون إنسان.