تبلغ مساحة اليابسة على الأرض حوالى 149 مليون كيلو متر مربع، بينما يقترب عدد البشر من حاجز الـ 8 مليار نسمة، وبحسبة بسيطة بعد استبعاد القارة القطبية الجنوبية والاراضى الوعرة الغير صالحة للسكن، بنلاقى إنه المفروض يعيش 60 إنسان فى كل كيلو متر مربع، لكن طبعا ده كلام نظرى مش ممكن يحصل بسبب إختلاف التقسيمات الجغرافية بين الدول، وبسبب اختلاف قدرة الحكومات على استغلال الارض، فبنلاقى مثلاً مدينة زى القاهرة بيوصل حجم الكثافة السكانية فى بعض أحيائها إلى خمسين ألف نسمة فى الكيلو متر المربع، بينما توجد بعض المناطق العشوائية فى الهند والفلبين بتوصل فيها الكثافة السكانية لـ 100 ألف نسمة فى الكيلو متر المربع، ورغم كل الأرقام دي إلا إنها لا تمثل شيئ حرفياً، لو قارناها بمدينة تزداد فيها نسبة كثافة السكان بحوالى عشرين ضعف عن أى مكان آخر على سطح الأرض .

المدينة المسوّرة

مدينة كولون المسورة هى مدينة صغيرة بتقع فى شبه جزيرة كولون أقصى جنوب الصين، وبيفصلها خليج كولون عن جزيرة هونج كونج، وكانت شبه جزيرة كولون تابعة دبلوماسياً لهونج كونج البريطانية مع مجموعة من الجزر المتفرقة، وده بعد عدد من المعاهدات العسكرية بين حكومة بريطانيا ومملكة تشينج الحاكمة فى البر الرئيسى للصين، وبتشتهر المدينة الصغيرة بمدينة كولون المسورة، تمييزا لها عن مدينة كولون ككل، وسبب تسميتها بالاسم ده هو إن فيه مساحة صغيرة من مدينة كولون بتبلغ حوالى 27 ألف متر مربع تم إنشاء حصن عسكرى وتمت إحاطته بالأسوار من كل جانب، و فى القرن التاسع عشر كان مقر لجنود المملكة الصينية اللي كانت مهمتهم تأمين التجارة، ومع إندلاع الحرب بين بريطانيا والصين زاد الإهتمام الصينى بالمنطقة حول الحصن، وأدى النشاط المتزايد لتأسيس مدينة كاملة باسم كولون، وبعد سلسلة من الصراعات العسكرية والمعاهدات، خلال الفترة بين ( 1839 حتى 1898 ) أصبح حصن كولون عبارة عن جيب دبلوماسي بدون حل واضح، مما أدى لتكوين بؤرة عشوائية هتكون فيما بعد نواة لأكثر المدن إزدحاما وفوضوية عبر التاريخ، ففى مساحة تقل عن مساحة أربع ملاعب كرة قدم عايش حوالى خمسين ألف نسمة، أو بمعنى آخر بعد تطبيق قاعدة الكثافة السكانية واللي هي عدد السكان على المساحة المتوفرة، بنلاقى أن معدل الكثافة السكانية بالمدينة يوازى مليون وتسعمائة ألف إنسان لكل كيلو متر مربع.

حروب الأفيون

عشان نفهم بداية القصة لازم نرجع بالتاريخ لبدايات القرن التاسع عشر، وقت ما كانت الهند مستعمرة بريطانية، وفى خلال الوقت ده أنتشرت تجارة الأفيون اللى بيتم زراعته فى الهند وتصديره لجارتها الصين، وكانت التجارة بتدر أموال كثيرة لصالح المستعمر البريطانى، لكن الحكومة الصينية لاحظت إن المواطنين بدأوا إهمال كل أشكال الانتاج وسخروا كل أمكانياتهم لشراء الأفيون، وده كان بمثابة جرس إنذار بيهدد الإقتصاد الصيني والثروة البشرية المنتجة، فاتخذت حكومة الصين قرار بمنع إستيراد الأفيون أو تداوله داخل الأراضى الصينية، وده الأمر اللى أثار استياء حكومة بريطانيا طبعاً، وبدأت سلسلة من التوترات أدت فى النهاية لحرب الافيون الأولى سنة 1839، وهى الحرب اللى انتصرت فيها بريطانيا على الصين، وكان من نتائجها إحتلال هونج كونج اللى أصبحت قاعدة عسكرية وسياسية بريطانية، وطبعا لم تسلم الصين للأمر بسهولة، وحاولت المقاومة حتى قامت حرب الأفيون الثانية سنة 1856، واللى إنتصرت فيها برضه الأمبراطورية البريطانية، وأجبرت الصين على التنازل بشكل رسمى عن هونج كونج وبعض الأراضى الجديدة.
واستمرت المناوشات اللى أدت فى النهاية لسلسلة من المعاهدات عرفت تاريخياً بالمعاهدات غير المتكافئة، منها معاهدة توسعة هونج كونج أو معاهدة بكين سنة 1898، واللى تم فيها إجبار الصين على توقيع عقد إيجار بدون مقابل لمدة 99 سنة لباقى شبه جزيرة كولون وبعض الجزر الصغيرة فيما يعرف بالاقاليم الجديدة، وكمحاولة يائسة من الصين للإحتفاظ بأى تواجد فى شبه جزيرة كولون، إدعت أن القلعة المسورة هى مكان تراثى هام للصين، وألحت على الاحتفاظ بالجزء ده من شبه الجزيرة، وبعد مساومات كتير وكمحاولة بريطانية لإنهاء النزاع، تمت الموافقة على إرجاء المباحثات حول موضوع القلعة، ومع مرور الوقت اصبحت القلعة المسورة جيب ديبلوماسى خطير غير معروف على وجه التحديد هو تابع لمين.

الغزو الياباني

وأستمرت المنطقة المسورة مهملة لحد كبير، لكن خلال الحرب العالمية التانية، قامت اليابان بالهجوم على هونج كونج وشبه جزيرة كولون واحتلتهم، وقام اليابانيون بتوسعة مطار كاي تاك Kai Tak القريب من كولون للإستفادة منه فى أعمال الحرب، وخلال الغزو اليابانى حاربت القوات البريطانية جنباً إلى جنب القوات الصينية للدفاع عن المكان، وحصل نوع من التقارب والوفاق بين الدولتين، ومع أنتهاء الحرب العالمية الثانية وإستسلام اليابان سنة 1945، تم غض الطرف إلى حد كبير عن المنطقة لعدم إثارة المشاكل بين الحلفاء الجدد، وهو الامر اللى أدى لزيادة أعداد النازحين للقلعة المسورة، واللى كانت بتحتوى على عدد من الابنية الصغيرة ذات الطابق الواحد أو الطابقين، وهو الامر اللى أدى لوصول الاعداد داخل القلعة، أو ما سيعرف لأحقا بكولون المسورة، بحلول عام 1947 الى 2000 شخص، وبمرور الوقت وبداية حقبة الستينيات وصل العدد لـ 20 ألف، واستمرت الأعداد فى الزيادة حتى وصلت قرابة الخمسين ألف نسمة سنة 1990 قبل الإخلاء.

مدينة الظلام

أيوه كده بالظبط إخلاء، وهدم المدينة كمان، مع قرب إنتهاء عقد الايجار وخلال فترة الثمانينيات، توصلت الحكومة البريطانية والصينية لإتفاق يهدف لحل مشكلة المدينة الفوضوية من جذورها، وكان إعلان الاخلاء سبب فى إنتباه العالم لوجود مدينة اشتهرت بعدد من الاسماء المثيرة على غرار مدينة الظلام التى لا يصلها ضوء الشمس، ومدينة الفوضى ومدينة اللا قانون، وده الأمر اللي دفع المغامر و الكاتب والمصور الكندى جريج جيرارد Greg Girard وصديقه الإنجليزى إيان لامبوت Ian lambot لزيارة المدينة والإقامة فيها أربع سنوات لإلتقاط الصور وإجراء المقابلات وإعداد كتاب City of Darkness أو مدينة الظلام، واللى من خلاله نقلوا صورة كاملة للمدينة الأكثر فوضوية على مر التاريخ التاريخ، وبنعرف من الكتاب إنه تم إنشاء ما يشبه المجلس المحلى بواسطة عصابات الثالوث الصينية، وهى عصابات مافيا صينية حولت المكان لوكر لتجارة المخدرات والقمار والدعارة، واللى حاولت التغطية على أنشطتهم عن طريق إستقدام المزيد والمزيد من السكان، العصابات دِه ساعدوا الأهالي يقوموا بعملية توسع رأسي لإستيعاب الاعداد المتزايدة من السكان، فكان بيتم هدم أى بناء صغير وتحويله لبرج عالى بالإضافة لاستغلال أى مساحة خالية لبناء أبراج جديد، وطبعا كانت الشرطة بتحاول إيقاف سيل الاعمال الخارجة عن القانون، لكن باءت كل محاولاتها بالفشل، ولم تنجح الشرطة فى فرض أي قانون بالمدينة بإستثناء قانون واحد فقط، وهو حظر إرتفاع المبانى عن 14 دور لعدم تعطيل حركة الطيران بمطار كاي تاك، واستمرت حركة التوسعة والبناء حتى شملت كل مكان بالمدينة، حتى لم يبقى بالمدينة إلا الأزقة الضيقة، اللى يادوب بتسمح بدخول الافراد لمبانيهم، لدرجة إن الشمس مابتقدرش تتسلل لأى مكان بالمدينة، ومع موسم الامطار أو حتى عمليات النظافة للبيوت كانت بتسقط المياه فى الأزقة وتتراكم، ومع عدم وجود نظام صرف جيد أصبحت الارض رطبة، وانتشرت الفئران والحشرات وأصبح المناخ غير آدمى.

عصابات الخير

وبالرغم من الظروف الصعبة دي، إلا إن الكتاب بيشير الى إن عصابات الثالوث قامت ببناء مجتمع متكامل، وحاولت تذليل كل العقبات وأنجزت عمل هندسى مثير للإعجاب، العصابات قاموا بحفر 67 بئر لتوفير المياه للمدينة، وقامت بتوفير الكهرباء لأغلب سكان المدينة، إما عن طريق سرقة الكابلات أو عن طريق الرشاوى والفساد داخل شركات الكهرباء، كمان قاموا بأعمال جمع وحرق للقمامة والنفايات، مش كده وبس بل حولوا أسطح المنازل لمنتزهات وأماكن للترفيه، لأن أسطح المنازل هى الاماكن الوحيدة اللى كان بيوصلها ضوء الشمس، وكمان قامت بإنشاء مدرسة لتعليم أطفال المدينة القراءة والكتابة، بالإضافة لتخصيص أربع أدوار كاملة لدور العبادة، وانتشرت فى المدينة المحال التجارية اللى بتبيع كل شىء تقريباً واللى قدرت تحقق إكتفاء ذاتى للمدينة.

عوامل جذب عجيبة

اشتهرت المدينة كمان بالمطاعم اللى بتقدم حساء ولحوم الكلاب، واللى كان ممنوع قانونياً فى هونج كونج البريطانية، وده الأمر اللى كان بيخلى هواة لحم الكلاب من هونج كونج يزوروا المدينة لتناول وجبتهم المفضلة، وطبعا كانت كل المحلات والمطاعم والشقق برخص التراب، ولا تستلزم تراخيص ولا رقابة ولا اى حاجة، وكانت المحلات والمطاعم لها نشاط صباحى وآخر مسائى، ففى الصباح يتم مزاولة النشاط التجارى أياً كان، أما فى المساء فيتحول المكان لصالة قمار أو تعاطى مخدرات، أو أى أعمال منافية للآداب، وأغرب ما تم انتشاره فى المدينة هو المستشفيات وعيادات الأطباء، فمع وجود القوانين اللى بتستلزم التكاليف العالية لإستصدار التصاريح والتراخيص فى هونج كونج والبر الرئيسى للصين، لجأ الأطباء لشراء أو إستئجار المحال فى مدينة كولون المسّورة وحولوها لعيادات ومستوصفات، وطبعا المرضى من كل مكان قريب من المدينة كانوا بيلجأوا لها عشان يستفيدوا من إنخفاض الأسعار، ومع إزدهار حركة التجارة والاموال داخل المدينة، تم شراء الفاسدين من الشرطة وإنعدمت تماما أى محاولة للتنظيم داخل المدينة.

الوداع

عشان كل ده؛ كان هدم المدينة هو الحل الجذرى الوحيد، على أن يتم تعويض السكان بمبالغ نقدية وتهجيرهم، ورغم المبالغ المعقولة اللى رصدتها الحكومة الصينية، إلا إن الأهالى رفضوا وساوموا، ولما أكتشفوا ان المرة دى غير كل مرة وان الحكومة عازمة، ودعوا مدينتهم المحبوبة بالدموع، وبتنتشر فى كتاب جيرارد ولامبوت قصص الاهالى من أصحاب المحلات التجارية والمصانع الصغيرة، اللى تخلى الواحد فعلا يشعر بالتعاطف الغريب لإستمرار المدينة الفوضوية، وإستغلالاً لشهرة المدينة لم تفوت السينما الفرصة، وتم تصوير فيلمين كاملين داخل أسوار المدينة بعد قرار الإخلاء وقبل الهدم.
فى النهاية بنشير لمحبى السياحة وزيارات المدن، أن مدينة كولون المسوّرة حاليا أصبحت حديقة وطنية و مزار سياحى مثير على خليج كولون اسمه Kowloon Walled City Park، وبيحتوى على جزء من الأسوار القديمة ومتحف بيشتمل على ماكيت كبير لشكل المدينة قبل الهدم، وبيحتوى المتحف على بعض الرسوم والوثائق والصور و الأدوات المستخدمة فى المدينة القديمة.

Kowloon Walled City Park