فيه جزيرة صغيرة في وسط المحيط الهادي، كانت فى يوم من الايام أغنى دولة فى العالم، المواطنين اللي عايشين فيها كانوا بيتمتعوا بأعلى معدلات الدخل الفردى والرفاهية فى العالم كله، إلا إن تجربة الثراء والرفاهية دى للأسف لم تستمر، والجمهورية دي على أد أنعزالها وقلة عدد سكانها إلا إنها كانت مكان لدرس من أهم دروس الإدارة على مر التاريخ.

كنز الجزيرة

جمهورية ناورو Nauru هى أصغر جمهورية مستقلة فى العالم كله، وناورو هي عبارة عن جزيرة معزولة فى وسط المحيط الهادى، بتقع شمال غرب أستراليا، ومساحة الجزيرة كلها على بعضها لا تزيد عن 21 كم مربع، أما عدد السكان فوصل تعداد 2020 لـ 13600 إنسان، معظمهم من السكان الأصليين للجزيرة مع بعض الجاليات الصغيرة من أستراليا ونيوزيلانديا والصين.
الفترة الذهبية للجزيرة دي كانت الفترة اللى تلت الإستقلال عام 1968، وهى الفترة اللى تمتع بيها أهل الجزيرة بموردهم الطبيعى الوحيد، واحد من أنقى أنواع الفوسفات، والفوسفات زى ما هو معروف من المعادن والثروات الطبيعية غير المتجددة، واللى بيتم استخدامها فى كتير من الإستعمالات الزراعية والصناعية، واللى برضه تواجده مقصورعلى بعض الأماكن زيه زى النفط والغاز، والسبب اللى خلى جزيرة ناورو تتمتع بكميات كبيرة من الفوسفات النقي، بيرجع الى ان الجزيرة فضلت ملايين السنين معزولة فى المحيط الهادى وميعرفش الإنسان طريقها، وكانت أنواع ضخمة من الطيور المهاجرة بتستخدم الجزيرة كمحطة للراحة والتنقل خلال سفرها الطويل، وكانت الطيور بتتناول البذور والثمار البكر من خيرات الجزيرة، وبعدين يصاحب العملية دى معدلات عالية من الإخراج فى كل أنحاء الجزيرة، وعلى مدار آلاف او حتى ملايين السنين تحولت الرواسب دي لمعدن الفوسفات النقي.

توزيع الثروة

جزيرة ناورو تم اكتشافها في الأصل عن طريق سفينة شراعية من بريطانيا عام 1789، وكانت الجزيرة مأهولة بالفعل من مجموعة من السكان الأصليين اللى كان عددهم 12 قبيلة، واللى على أغلب الظن قدروا انهم يوصلوا للجزيرة قبل 3 آلاف سنة من التاريخ ده، وكانت سنة 1798 هى السنة الأولى اللى يختلط فيها السكان الاصليين بالعالم الخارجي، وكانت الامور طيبة بين الجميع وبيتم فيها تبادل المنفعة، السكان الاصليين كانوا بيفرحوا بأى شىء جديد على سبيل التجربة والفضول، والبحارة البريطانيين فكانوا بيستغلوا الجزيرة زيهم زى الطيور زمان فى عملية الراحة والإمداد.
والألمان هم تاني مجموعة أكتشفوا الجزيرة، لكن الألمان بقى أستطاعوا يعرفوا سر الكنز المدفون فى الجزيرة، وعشان كده أخدت الحكومة القيصرية الألمانية قرار بضم الجزيرة سنة 1888، وبعد مفاوضات كتير بين البريطانيين والالمان، قدرت شركة بريطانية إنها تتفاوض على حقوق التنقيب عن الفوسفات مناصفة مع الألمان، وفي عام 1906 بدأت عمليات التعدين بالفعل، لكن بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، أستولى البريطانيين على الجزيرة لوحدهم، وأستمروا وأتباعهم من الأستراليين والنيوزلنديين في عملية استخراج الفوسفات والاستفادة منه لحد عام 1968، لما قدرت الجزيرة أخيرة انها تحصل على الاستقلال، وهي السنة اللي من بعدها أصبح مواطني الجزيرة أغنى أغنياء العالم، بعد توزيع الثروة الكبيرة للفوسفات على عدد سكان الجزيرة القليل، لكن الأمر زي ما قولنا لم يستمر طويلاً، وبعد ما كانت الجزيرة مكان بيحلم الإقامة فيه كل الناس، وصل بيها الحال إن في عام 2017 ماكنش فيه حد عايز يقيم على الجزيرة دي ولا حتى اللاجئين، والجزيرة اللي كانت جنة المحيط الهادي، هجرها أكتر من 70% من أهلها.
يا ترى ايه اللي حصل؟

رئيس جمهورية ولا في الأحلام

أول رئيس منتخب للجزيرة بعد استقلالها هو الرئيس هامر ديروبورت Hammer DeRoburt، والرئيس ديروبورت ده بقى حكايته حكاية، فالرئيس كان وطنى جدا ومناضل وأمين ومحب لشعبه، وبدون أي شك كان عايز الخير للجميع، وكان من نسل السكان الأصليين على الجزيرة، وكمان واحد من القلائل اللى خرجوا من الجزيرة وشافوا العالم وانبهروا بالحداثة، فالرئيس ديروبورت تلقى تعليم تمهيدي فى واحد من معاهد التكنولوجيا باستراليا، يعنى مبدئياً كده، الراجل ده كان أبعد ما يكون عن فهم الاقتصاد وإدارة المؤسسات، ناهيك عن إدارة دولة كاملة، لكن البرلمان المؤسس حديثاً فى ناورو، اختاره عشان يبقى رئيس الجمهورية الجديدة، وكان فى وجهة نظر أعضاء البرلمان اللى هم 20 عضو، إن السيد ديروبورت رجل وطنى وصاحب خبرة واطلاع على العالم الخارجي، ووقت تنصيبه رئيس للجمهورية كانت يبلغ من العمر 46 سنة فقط، واللى يعتبر نوعاً ما سن مبكر لقيادة دولة بحالها، إلا طبعاً لو كان صاحب مؤهلات وخبرات استثنائية، بينما كان ديروبورت على النقيض تماماً، ومكانش بيملك أي خبرات سواء على مستوى العمل السياسي أو الاقتصادي، وكان كل اللى الرجل بيملكه هو الحب والرغبة فى إسعاد شعبه، وكان كل هم الراجل انه يعوض أهل الجزيرة عن أيام الفقر والقهر اللى عاشوها طول عمرهم، وعشان كده سخر ديروبورت كل عائدات الدخل القومى المعتمد على الفوسفات لصالح رفاهية السكان، وأعفى الجميع من الضرائب وسمح بمجانية جميع الخدمات الصحية والتعليمية والإجتماعية، بالإضافة لصرف الإعانات والمرتبات الضخمة، يعني لا الراجل ولا حكومته فكروا فى أي نوع من الإستثمار طويل الأجل، واللي ينفع أهل الجزيرة بعد ما الفوسفات يخلص، كانوا ماشيين بمبدأ “عيشني النهاردة وموتني بكره”.

أغنى جزيرة في العالم

The New York Times

والجزيرة بحلول عام 1980، يعنى بعد 12 سنة بس من الاستقلال، كان بيتمتع سكانها بأعلى متوسط دخل للفرد فى العالم كله، وبالفعل كانت كل الخدمات مجانية ومعفية من الضرائب، والكبيرة بقى إن حكومة الجزيرة قامت بإرسال البعثات التعليمية بالمجان لأستراليا ونيوزيلندا لكل الطلاب، أما اللي كانوا بيشتغلوا وينقبوا عن الفوسفات، فكانوا مجموعة من العمال المهرة المستوردين من استراليا ونيوزيلندا والصين، وفى الوقت ده ومع البذخ الكبير من حكومة ديروبورت ، بدأت بعض الأصوات القليلة تحتج وتحاول تلفت الإنتباه لخطورة الوضع المعتمد على مورد غير متجدد، لكن طبعا مع النعيم اللى عايش فيه أهل الجزيرة ، ضاعت الاصوات القليلة دي فى الهوا، ولما خرجت أصوات تطالب بتنحية ديروبورت وحكومته، أهل الجزيرة أعترضوا أعتراض شديد، أما ديروبورت نفسه لما سألوه عن خططه للمستقبل، كان رده عليهم بعبارة انجيلية وردت فى انجيل (متى) معناها “انه هينشغل بيومه بس، أما المستقبل هيسيبه يعتنى هو بنفسه”.

السقوط إلى الهاوية

مع استمرار السياسات المتهورة لحكومة الرئيس ديروبورت، كانت النتيجة الحتمية بدء إنخفاض معدلات استخراج الفوسفات ومعاها طبعا إنخفاض الأرباح، والمشكلة بقى إن الشعب اللى عاش فى نعيم الفترة دي، مقدرش انه يكوّن كوادر ولا فنيين مهرة، لأن الجميع تقريباً أعتمد على الإعانات الحكومية وعلى كل الخدمات المجانية ومبقاش عايز يشتغل، والنتيجة إن السكان لم يتعلموا أساليب التنقيب ولا أى نوع من أنواع الصناعة، أما الزراعة اللى كانوا بيفهموا فيها، فضاعت بعد تخريب الاراضي مع عمليات التنقيب المجنونة، ومع اعتماد الجمهورية كلها على العمالة الاجنبية، مكانش فىه أى فرصة لتخفيض الأجور، وبدأت الجزيرة كل يوم حالها يسوء، وبدأت تلجأ لسياسات مصرفيه خطيرة، زى القبول بغسيل الاموال فى بنوكها، أو حتى القبول بأموال عصابات المافيا عديمة المصدر، بالإضافة لبيع الجنسيات والإقامات لأي شخص عنده الإستعداد للاستثمار فى الجزيرة، ده غير بقى ان الجزيرة استغلت كونها عضو فى الأمم المتحدة، وبدأت فى مقابل الأموال إنها تعترف بأى إقليم يعلن عن نفسه، فمرة تعترف بتايوان وتزعل الصين، ومرة تسحب اعترافها بتايوان عشان ترضى الصين، والحكاية كلها معتمدة على مين يدي قروض اكتر، وكانت النتيجة هى عزل الرئيس ديروبورت من منصبه عام 1989.

من نعيم إلى جحيم

بعد عزل الرئيس حاولت الجزيرة إنها تقوم ببعض الإصلاحات، وتعقد بعض الإتفاقيات عشان تقدر توفر لشعبها حد الكفاف، وده طبعا بعد ما انتهى الفوسفات تقريباً والجزيرة أصبحت أراضيها غير صالحة للزراعة، فيما عدا شريط رقيق بالقرب من الساحل ميكفيش أى حاجة، ومن جملة المحاولات اللى عملتها حكومة ناورو الجديدة، إنها أبرمت اتفاقية مع أستراليا، تسمح ليها بتحويل اللاجئين وأصحاب مشاكل الإقامة للإحتجاز على أرض الجزيرة، بالاضافة كمان لبعض المجرمين اللى تم إنشاء سجون ليهم على الجزيرة، يعنى الجزيرة قبلت طواعية إنها تحول أراضيها الصغيرة لمعسكرات إيواء لاجئين وسجون مجرمين، وكل ده طبعاً فى سبيل المعونات اللى بتبعتها حكومة أستراليا للجزيرة، ونتيجة للفقر اللي انتشر بين أهالى الجزيرة كان من الصعب الإستفادة من المبالغ دي، أو حتى جزء منها لصالح اللاجئين ومعسكراتهم، وهو الأمر اللى خلق للجزيرة مشاكل جديدة مع منظمات حقوق الانسان اللى نددت بالأوضاع المتردية للاجئين، واللى أدى بالامر فى النهاية لإلغاء معسكرات الايواء دى فى عام 2008، لكن بعد مجموعة من الإصلاحات والوعود، فتحت تانى المعسكرات عام 2012، ومع إعادة افتتاح المعسكرات، تم تهديد أى حد يشكو من الوضع مرة تانية.
يعنى الجزيرة المتسامحة الغنية، اتحولت لجزيرة فقيرة وحكم ديكتاتوري فى سجن كبير، أما الـ 30 % من أهل الجزيرة الأصليين اللى مازالوا بيقاوموا للاستمرار على الجزيرة، فبيعانوا من مشاكل كتير زي إنقطاع الخدمات الأساسية من مياه ونور وغيرهم، ومازال لغاية النهاردة جمهورية ناورو بتكافح وبتعيش على المعونات، وبتدفع كل يوم ثمن قلة الوعي والإدارة السيئة.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ.