من بداية الخلافة الإسلامية على مصر، اعتاد المسلمين على وجود مسجد كبير في العاصمة يُعرف بالمسجد الجامع يكون مركز للعاصمة بيتجمعوا فيه للتشاور في أمور البلاد والعباد أو بهدف دراسة العلوم الشرعية.
وبيعتبر أول مسجد تم اعتباره مسجد جامع في مصر هو مسجد “عمرو بن العاص” -رضي الله عنه- بالفسطاط المعروف باسم (الجامع العتيق)، واللي انتقلت منه اجتماعات المسلمين لجامع العسكر في مدينة العسكر، اللي أسسها الوالي “صالح العباسي” عشان تكون مدينة للجنود تابعة لمقر الحكم.
ولما استقل “أحمد بن طولون” بحكم مصر عن الدولة العباسية، وأسس دولته المعروفة بالدولة الطولونية بمصر والشام، أمر بإقامة جامع للمسلمين عشان يبقى تالت مسجد جامع يتبني في عاصمة مصر الإسلامية، ومش مجرد جامع عادي؛ بل حسب ما أمر أحمد بن طولون “جامع من مال حلال، إذا غرقت مصر نجا، وإذا احترقت بقى”.

بناء المسجد

اتولد أحمد بن طولون في مدينة بغداد بالعراق، من أب مملوك للخليفة المأمون وأحد الجواري المسماه قاسم، وبالرغم من نشأة ابن طولون وسط أبناء الحكام والوزراء؛ إلا إنه رفض حياة اللهو والعبث، واشتهر بالتقوى والعفاف والقوة، ولمجرد ما بنسمع الصفات دي أكيد بييجي في بالنا صفات القائد اللي يليق بيه حكم البلاد، وده بالظبط اللي شافه فيه الوزير “عبيد الله بن خاقان”؛ فأرسله لمدينة طرسوس التركية عشان يتعلم هناك ويدرس الحديث والآداب عن كبار العلماء، ولما رجع أحمد بن طولون، ولاه الخليفة المتوكل الأعمال العسكرية اللي كان بيقوم بيها أبوه، وبالتدريج سمحت الفرصة لأحمد بن طولون إنه يتولى شؤون مصر ويثبت نفسه كرجل دولة من الطراز الأول ذو كفاءة إدارية وعسكرية عالية.
وبالرغم من إن الدولة العباسية كان بيشتهر فيها تعدد الحكام؛ إلا إن أحمد بن طولون رفض ده وانفصل بحكم مصر والشام عن الدولة العباسية، وأسس دولته “الدولة الطولونية”، وفي الوقت ده شرع ابن طولون في إنشاء عاصمته مدينة القطائع في شمال الفسطاط؛ ولإن السمة المعمارية اللي كانت بتغلب على عواصم البلاد ذات السلطان في الوقت ده هي وجود أحد المساجد الجامعة في أرضها؛ أمر أحمد بن طولون ببناء جامع بالقرب من قصره، ويكون الجامع ده على طراز عمارة العراق اللي نشأ فيها وتأثر بفنونها المعمارية.

ولكن لما تم التخطيط للجامع، قال المعماريين إن الجامع ده هيحتاج حوالي 300 عمود من الرخام، ودي كانت مشكلة بالنسبة لأحمد بن طولون، لإن الأعمدة الرخامية دي وقتها كانت بتتجاب من الكنائس والجوامع القديمة المهدومة أو المهجورة؛ فتورع بن طولون عن إنه يعمل كدا ويهدم الكنائس والجوامع المهجورة وياخد أعمدتها.
وفضلت المشكلة دي معكرة صفو أحمد بن طولون لحد ما علم بالأمر أحد المهندسين المحبوسين، وهو المهندس “سعيد الفرغاني”، اللي أول ما عرف المشكلة أرسل للأمير ابن طولون وعرض عليه إنه يبني الجامع بلا أعمدة ومش هيحتاج غير عمودين بس، مقابل إن أحمد بن طولون يديله عفو ويخرجه من السجن.
وبالفعل وافق الوالي ابن طولون، وأعجب بالفكرة لما سعيد الفرغاني رسمله مخطط المسجد على الجلود، وأعجب بالفكرة، وإدى له زمام أمر بناء الجامع؛ ولإن أمر أحمد بن طولون جاء ببناء مسجد لا تطوله نار ولا مياه فيضان، اختار المهندس سعيد هضبة من جبل يشكر ونشرها وسطحها، وبنى عليها الجامع عشان ما يطولهوش أي مياه فيضان، وكمان عمل له نظام صرف تقدر مياه الأمطار تتصفى من خلاله، وبناه من الطوب الأحمر المعروف بمقاومته للحرائق، وبكدا يبقى وفى الشروط اللي أمر بيها الأمير، وراح بعدها فرش الجامع بالمصليات وعلق فيه القناديل بالسلاسل، افتتحه الأمير أحمد بن طولون في عام 265 من الهجرة الموافق 879 من الميلاد، وجمع فيه الفقراء وقراء القراءن، وعمل وليمة في باحة الجامع وأطعم الحضور وتصدق على المساكين احتفالا بالمسجد.

في رحاب الجامع

أول ما توصل لجامع ابن طولون بحي السيدة زينب التابع لمحافظة القاهرة في مصر، هتتفاجئ بحجم الجامع ومساحته اللي بتوصل لحوالي 6 فدان ونص بالإضافة لتصميمه المعماري اللي بيظهر لك قبل ما تدخل في هيئة سور مربع جواه سور تاني أعلى منه، بيتوسطهم قبه وبيعلوه مآذن شكلها غير مألوف.
والحقيقة إن السور المربع اللي من برا ده مش الجامع نفسه؛ دا بس مجرد سور -بيطلق عليه الزيادات- بيعمل كحاجز للجامع بيفصله عن باقي المدينة، في شكل بيهيأك لإنك هتدخل في ملكوت تاني تتعبد فيه بعيدا عن كل الزحام اللي في العالم الخارجي، وده اللي كان مقصود من بناء الجامع في شكل مدرج.
والسور الأول ده هتلاقيه سور عتيق بسيط جدًا، اتفتح فيه 21 فتحة بتمثل أبواب بتقودك للـ 21 باب الرئيسيين للسور الرئيسي بتاع الجامع، والعدد الكبير ده من الأبواب لإن الأمير ابن طولون كان عايز إن أي حد ييجي للجامع من أي مكان يلاقي في باب قريب منه عشان يدخل منه وما يضطرش يمشي كتير حوالين الصور، وخصوصًا إن مساحة الجامع كبيرة جدًا.

وأول ما تدخل من أقرب باب ليك في الزيادات، هيقابلك واحد من الأبواب الرئيسية للجامع، وهتشوف سور الجامع المميز اللي بتتوجه شرفات مفرغة بتشبه الشرفات الأرابيسك لكنها مصنوعة من الحجر، وهنا في لفتة جميلة، لو بصيت على الزخارف اللي بتعلو سور الجامع الرئيسي هتلاقيها زخارف على شكل المصلين، واللي هي الكتف في الكتف والقدم في القدم في صفوف متساوية تلبية لنداء الإمام اللي بيقول فيه (استووا).

وهتلاحظ كمان إنك عشان تدخل الجامع لازم تطلع درجات سلم، وهنا بقى لازم تعرف إن جامع ابن طولون بيعتبر من المساجد المعلقة؛ لإنه مبني على قمة صخرة من جبل، وبيعتبر أكبر الجوامع المصرية وأقدمهم، وبالرغم من وجود جامع عمرو بن العاص وجامع العسكر؛ إلا إن الجامعين دول تم ترميمهم وتجديدهم بالكامل وما بقوش على حالتهم اللي اتبنوا بيها.

باحة الجامع

بعد ما تطلع درجات السلالم من الباب الأقرب ليك، وتدخل باحة جامع ابن طولون، هتكتشف إن الجامع بيتميز بوجود صحن بيهيمن على تكوينه المعماري، والصحن ده عبارة عن باحة مربعة بتتميز بيها المساجد الجامعة واللي بيجتمع فيها الناس لو ضاق بيهم إيوان الصلاة.
والمسلمين اتبعو نهج العمارة ده بأمر من أمير المؤمنين الخليفة “عمر بن الخطاب” -رضي الله عنه-، اتباعا لتنظيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- للجامع في المدينة، واللي كان غرضه جمع الناس للصلاة وتلقي علوم الدين ومناقشة قضايا الرعية، وغيرها من المناسبات.
وفضل الولاة المسلمين يصمموا مساجدهم على هيئة صحن وفيه المسجد لأغراضه الوظيفية دي، لحد ما زاد الاهتمام بالجوامع وأضافوا ليها عناصر الإبداع واللمسات الفنية والتطلع للمفاخرة المعمارية اللي ظهرت في عهد خلفاء بني أمية؛ تعبيرا عن قوة الحاكم وسخائه، اللي بيستمد منهم هيبته قدام منافسيه والرعيه.

وهتلاقي في مركز الصحن في جامع ابن طولون موجودة قبة مثمنة كبيرة محمولة على 4 جدران، لكل جدار منهم باب على شكل حدوة حصان، وبيقاس كل ضلع من أضلاع القبة التمانية بحوالي 13 متر، وأول ما تدخل من أحد بيبان القبة هتلاقيها بتحتضن فسقية أو حوض مائي للوضوء منه، ولو بصيت لفوق هتلاقي الجدران الداخلية ليها مزخرفة بآية الوضوء بالخط الكوفي.

والحقيقة إن القبة دي هي تالت قبة تقام في نفس المكان، ودا لإن القبة اللي بناها أحمد بن طولون احترقت، وبعدها أقام العزيز بالله قبة مكانها، وقام السلطان حسام الدين بابدلها بالقبة الحالية.

مقرات الشعائر

لما تخرج من قبة هتلاقي في وشك على طول مجموعة من الإيوانات أو محاريب الصلاة، وبالتحديد جامع ابن طولون بيحتوي على 5 إيوانات، بيمثل الإيوان الشرقي منهم إيوان القبلة وهو أكبر الإيوانات الخمسة وأكترها في عدد الأروقة والزخرفة، في حين إن باقي الإيوانات بتحتوي على رواقين فقط، والأروقة دي بتكون أركان منظمة للدراسة فيها، حاجة كده شبه عواميد الأزهر.

وبيتوسط إيوان القبلة منبر خشبي مصنوع من خشب الساج الهندي والأبنوس المدقوق المنقوش، واللي أقامه برضو السلطان المملوكي حسام الدين، وأقام فوقه قبة صخرية تانية بخلاف قبة الفسقية اللي عدلها.
وأروقة جامع ابن طولون كلها بتتميز بالأعمدة اللي تيجانها محلاة بالزخارف النباتية المصنوعة من الجص، وفي الجدران اللي فيها العواميد مفتوح شبابيك مفرغة محلاة بزخارف متنوعة ومكتوب عليها بالخط الكوفي سورتي (البقرة وآل عمران)، وفي الواقع العواميد دي ما هياش عواميد؛ لكنها دعائم مصنوعة من الطوب والجص عشان تتميز بالقوة والصلابة اللي ما تنطبقش على العواميد الرخامية، واللفتة العبقرية بقى في الدعائم دي هي إنها واخدة حروف دائرية شوية عشان الأحرف بتاعتها ما تتآكلش بمرور الزمن.

أما عن أهم معلم من معالم جامع ابن طولون هو المئذنة أو المنارة الملوية بتاعته، اللي استوحاها أحمد بن طولون من المنارة الملوية لمسجد سامراء الأثري بالعراق، وبتتكون المئذنة من أربع طبقات، الطبقة الأولى مربعة والتانية مستديرة والتالتة مثمنة، أما الرابعة بتعلوها قبة بتشبه شكل المبخرة، دا غير إن المئذنة الملتوية دي بتعتبر الوحيدة في مصر اللي لها سلم خارجي.

أثَر

دلوقتي بقى تعالى نقعد قعدة في الصحن، وأحكي لك شوية عن قصة تاريخية شهيرة بتتقال في جامع ابن طولون.
من أشهر القصص التاريخية اللي بتذكر عن الجامع، هي إن أحمد بن طولون لما خلص بناء الجامع أمر الحاشيه إنهم يسمعوا الكلام اللي بيتقال في الجامع، يعني أمرهم يشوفوا المميزات والعيوب اللي بتتقال عن جامع ابن طولون بين الناس.
وبلغ أحمد بن طولون بعض العيوب، واللي كان منها شخص قال إن محراب المسجد صغير، وواحد تاني قال إن المسجد ما فيهوش عواميد على عكس المساجد الإسلامية، وواحد تالت قال إنه ما فيهوش ميضأة، واللي هي فسقية الوضوء.
فأمر أحمد بن طولون بجمع الناس عشان يخطب فيهم وقال “بالنسبة للمحراب فهو شاف النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام وخطط له حجم المحراب، ولما صحي تاني يوم لاقى النمل بيطوف في نفس المكان اللي النبي -صلى الله عليه وسلم- حدده، أما العواميد فقال بن طولون إنه كان عايز يبني المسجد بمال حلال واستحرم كونه ينهب عواميد من الكنائس والمساجد القديمة المهجورة، والميضأة فقال فيها إنه بالفعل كان بيفكر في بناءها، وبينضف ويرتب مكان ليها، وبعدها تم بناؤها، ومازال المسجد قائم لحد النهارده عشان يكون موقع أثري شاهد على تاريخ أحمد بن طولون واللي بالرغم من أن دولته كانت فترة مزدهرة في مصر إلا إنها مستمرتش كتير بعد وفاته.