لاشك إن الصيام خلال شهر رمضان المبارك من الفجر للمغرب يعتبر من الممارسات الصحية لجسم الإنسان.
الصيام بيلعب الدور الإيجابي في إدارة مستويات الكوليسترول والسكر وعلاج الإلتهابات وتقليل مخاطر الشريان التاجي وغيرها من الأمراض، أما الصيام المستمر أو الامتناع عن الأكل تمامًا فده منهي عنه تمامًا عقلاً وشرعًا؛ لأنه بيأدى للوفاة في النهاية، ولكن وبسبب بعض الظروف القهرية وصل البعض لأرقام قياسية صعبة تصدقها.

المراحل الدفاعية في الجسم

قبل ما نتكلم عن بعض الأرقام القياسية محتاجين نفهم بعض العوامل اللي بتتحكم في قدرة كل شخص على تحقيق الأرقام، فربنا سبحانه وتعالى خلق وسائل دفاعية للجسم يقدر يتعامل بيها كإجراءات طوارئ في حالة نقص الطعام والشراب، وطبعًا قدرة الإنسان على تحمل نقص المياه بتكون أقل بكتير من قدرته على نقص الطعام، وإن كان الطعام نفسه هو عامل من عوامل إمداد الجسم بالمياه، ومن الممكن إننا نقسم مراحل التعامل مع نقص الطعام والشراب إلى ثلاثة مراحل دفاعية.
المرحلة الأولى واللي بتلى آخر وجبة تناولها الإنسان وبتستمر من 6 إلى 8 ساعات تقريبًا، ودي بيكون لسه الجسم براحته وبمعدلات استهلاك عالية لجلوكوز، ومع النقص في الإمدادات بيبدأ الجسم في استخدام الجليكوجين واللي هو عبارة عن جلوكوز كان متخزن للطوارئ، فلو خلال 72 ساعة موصلش إمدادات بتبدأ مرحلة حرق الدهون، وهي المرحلة اللي بتختلف من شخص للتاني حسب كمية الدهون المتوفرة.

وفي كل يوم بيمر بيحاول الجسم تقليل نسبة الجلوكوز المطلوبة لأقل حد ممكن، ولو موصلتش الإمدادات بيدخل الجسم في المرحلة الثالثة وهي مرحلة البحث عن البروتينات في العضلات وتحليل الأحماض الأمينية لتشكيل الجلوكوز، ولو استمر عدم وصول الإمدادات بينهار الجسم وبتحدث الوفاة.
وكل المراحل اللي فاتت بتكون معتمدة على عوامل كتير زي وزن الإنسان وجنسه وسنه والمكان اللي حصل فيه نقص الإمدادات، يعني مثلاً في حالات الضياع في الصحاري بيكون القدرة على تحمل نقص الطعام كبيرة لكن بتنكمش جدًا القدرة على تحمل العطش.
وعلى العكس في حالات الضياع في البحار والأجواء الباردة، بيكون الجسم في حاجه إلى الطعام لتحويله لطاقة يشعر بيها الجسم بالدفئ وفي نفس الوقت بترتفع القدرة على تحمل العطش؛ وعشان كده الوصول لأرقام قياسية في الامتناع عن الأكل والشرب بيعتبر مستحيل لإختلاف الظروف، والنهارده هنتكلم عن بعض الأرقام القياسية الموثقة.

مهاتما غاندي Mahatma Gandhi

الزعيم الشعبي الهندي “المهاتما غاندى Mahatma Gandhi” من أشهر أصحاب الأرقام القياسية في الامتناع عن الأكل، واستخدم غاندي الصوم عن الطعام كتعبير عن المقاومة اللاعنفية لقيادة الحملة الناجحة لاستقلال الهند عن الحكم البريطاني، وألهم إسلوبة العديد من الحركات المدنية في جميع أنحاء العالم.
وبالرغم إن غاندي امتنع عن الطعام واكتفي ببعض السوائل لمدة 21 يوم، إلا أن فيه مجموعة من العوامل أدت إلى وضعه في قائمة الأرقام القياسية، منها سنه اللي كان وصل لـ 74 سنة وقت الإضراب، ومنها تأثيره القوي ونجاحه في تحقيق الأهداف.
وأخيرًا حادث اغتياله في سن الـ 79 على يد أحد الهندوس المتعصبين إعتراضًا على دعوات غاندي لاحترام حقوق الأقلية المسلمة.

تيرينس ميك سواينى Terence MacSwiney

“تيرينس ميك سوايني Terence MacSwiney” هو مناضل إيرلندي ضد حكومة بريطانيا، كان عمدة مدينة كورك تاني أكبر مدينة في أيرلندا، وكان سياسي وقائد شعبي وكاتب ومؤلف. لما تم القبض عليه وسجنه، أعلن إضرابًا عن الطعام حتى الموت، وبالفعل مات في مارس 1920 بعد أن حقق رقم قياسي وصل لـ 74 يوم.
وكان لوفاته صدى دولي كبير في أوروبا وأمريكا، واشعل الاحتجاجات والإضرابات المتواصلة عن الطعام لكل رموز أيرلندا، واللي أدى الأمر في النهاية للحصول على الاستقلال وتأسيس جمهورية أيرلندا الحرة.

هيلين كلابن ورالف فلوريس Helen Klaben and Ralph Flores

“هيلين كلابن Helen Klaben” مغامرة أمريكية شابة في الـ 21 من عمرها، من سكان بروكلين بنيويورك، وكان نفسها تشوف ألاسكا، وأثناء تصفح جريدة لقت إعلان من طيار هاوي لعرض خدماته في الطيران لالأسكا على طيارته الصغيرة الخاصة ذات المحرك الواحد، وكان السعر مناسب جدًا، فاتصلت بيه واتفقوا على الرحلة.
كانت الرحلة بتاريخ 4 فبراير 1963، وصادفت الرحلة طقس سئ وعواصف ثلجية ورياح قوية، المشكلة أن صاحب الطائرة المكسيكي الأصل صاحب الـ 42 عام “رالف فلوريس Ralph Flores” مكنش مؤهل للطيران في الأجواء دي، وكمان مكانش معاه طعام كافي ولا معدات بقاء، فمع فقدان السيطرة على الطائرة والعجز حتى عن إرسال استغاثة، أصبح الهبوط الاضطراري مسألة حتمية، حاول رالف الهبوط بأمان قدر الإمكان لكن ده لم يمنع من تحطم الطائرة في براري يوكون بكولومبيا البريطانية.
وأصيبت هيلين كلابن بجروح خطيرة في قدمها اليمنى وأصيب هو نفسه بكسر في الضلوع، وده الأمر اللي هيصعب جدًا من حركتهم خصوصًا في أجواء شديدة البرودة، والمشكلة إن الأكل اللي كان موجود معاهم كان عبارة عن ست معلبات من السردين والتونة وعلبة من البسكويت المملح وقليل من الماء.
المياه مكانتش مشكلة لأنهم سقطوا في ثلوج سمكها بيتجاوز الأربع أمتار، أما المشكلة الإيجابية فكانت في إن هيلين ورالف من اصحاب الأوزان الثقيلة، وده اللي خلاهم يقدروا يحافظوا على حياتهم مدة 49 يوم كاملة قبل انقاذهم.
وبيقول رالف إنه قدر يقنن الطعام الموجود لمدة أسبوع أملاً في وصول الإنقاذ، لكن للأسف الإنقاذ تأخر لمدة 49 يوم، بمعنى إنهم اضطروا للصيام 42 يوم متصل، وبتقول هيلين في إحدى لقاءتها الصحفية أن الإفطار كان ماء والغذاء ماء والعشاء ماء.

أما محاولات الإنقاذ فقام بيها رالف لأن هيلين كانت شبه عاجزة عن الحركة بسبب إصابة قدمها اللي في النهاية تم اصابتها بالغرغرينة وتم بتر أصابع قدمها. قام رالف بصنع ملجأ عبارة عن خيمة بقطع من البلاستيك وأغصان الأشجار، وكان بيسيب هيلين في الخيمة لوحدها يوميًا ويخرج لقطع المسافات أملًا في العثور على مساعدة، وبالفعل قدر يعثر على مساحة من الجليد الأبيض على هيئة بركة مجمدة على بعد حوالي 2 كيلومتر من مكان المعسكر، وقدر إنه يكتب على البركة بلحاء وأغصان الأشجار نداء الاستغاثة الشهير “S.O.S”.
واستخدم أغصان الأشجار على هيئة أسهم للإشارة لمكان المعسكر، وكان على طول الطريق بيقوم بغرس الأغصان ويشعل فيها النار على أمل لفت الانتباه.
وبالفعل بعد مدة طويلة قدر طيار إسمه Charles Hamilton، بالانتباه للدخان الصادر من المكان، واقترب بطائرته لفهم سبب الدخان وشاف كلمة “S.O.S” النجدة، وتم إنقاذ هيلين ورالف بعد صيام 42 يوم.

جوش لونج وتروي دريسكول Josh Long and Troy Driscoll

“جوش لونج Josh Long” صاحب الـ 17 عام، و”تروي دريسكول Troy Driscoll” صاحب الـ 15 عام، في الأول من مايو 2005، راحوا في قارب صغير لصيد الأسماك وانجرفوا لعرض البحر، ومقدروش يحددوا اتجاه الشاطئ لانطباق الافق قدامهم من كل ناحية، واستمروا في عرض البحر ست أيام كاملة بدون لا أكل ولا شرب.
وحأول دريسكول الصغير ياكل قنديل بحر نئ كانوا اصطادوه لكن مقدرش وتقيأ، وبعد أسبوع في عرض البحر بدون ماء ولا طعام، قابلهم مركب صيد في عرض البحر وتم نقلهم للمستشفى ونجوا من الحادثة.

أندرياس ماهيفيتش Andreas Mihavecz

في 1 ابريل سنة 1979 كان المراهق النمساوى “اندرياس ماهيفيتش Andreas Mihavecz” على موعد مع الرقم القياسي العالمي في الاحتفاظ بالحياة دون طعام ولا شراب.
كان ماهيفيتش بيقود سيارة غير واضحة الأرقام ومحطمة لحد كبير مع انبعاثات وعوادم مهلكة للبيئة، فتم توقيفه من سيارة فيها 3 عناصر من رجال الشرطة، واقتادوه للحجز بغرفة معزولة بالدور الأسفل مراعاة لسنة الصغير.
واعتقد كل واحد من الثلاثة إنه أطلق سراحه في اليوم التاني، لكن اللي حصل أن ماهيفيتش استمر في الصراخ ومحدش سمعه لانعزال الغرفة، واستمر ماهيفيتش في العزل حتى تم العثور عليه من أحد الضباط بالصدفة بعد 18 يوم كاملين بدون طعام أو شراب.
وطبعًا تعرض ضباط الشرطة للمحاكمة الجنائية وحصل ماهيفيتش على تعويض مناسب وأصبح صاحب الرقم القياسي العالمي في تحمل الجوع والعطش، وبعد عمل بعض التحاليل لماهيفيتش تبين وجود بعض البيكتريا في معدته، ومع استجوابه اعترف إنه كان بيلعق الحائط الرطب من كتر العطش.

أرتور نوجيرا Artur Nogueira

في 13 اكتوبر 1972 أقلعت طائرة تابعه لسلاح أوروجواي الجوي من مدينة مندوزا بالارجنتين لتستكمل رحلتها باتجاه شيلي، وكان على متن الطائرة خمس أفراد من الطاقم بالإضافة لفريق الرجبي وبعض عناصر من عائلاتهم وأصدقائهم وعددهم 40 فرد، وبخطأ من الطيار اصطدمت الطيارة بجبال الانديز وسقطت في منطقة معزولة بتحيط بيها الجبال المتجمدة من كل ناحية، ومع سقوط الطائرة مات في الحادث 12 شخص وأصيب البعض بجروح قاتلة، والبعض الآخر أصيب برضوض وكدمات.
والمشكلة إن الحادث وقع في منطقة مليانة بالارتفاعات اللي تتراوح بين الـ 4000 إلى 6000 متر، يعنى برودة شديدة ونقص في الاكسيجين وتعب من أقل مجهود.
بعد الحادثة احتمى الناجون بجزء محطم من الطيارة عشان يقيهم البرد واستخدموا أغطية الكراسي وكل الحواجز الممكنة لتوفير ملجأ دافئ، ومع حلول يوم 22 اكتوبر والظروف الصعبة مات ستة آخرين، وكان من ضمن الناجين طالب طب إسمه “روبورتو كانيسا Roberto Canessa”.
وأشار عليهم بأكل أجزاء من جثث الموتى بإعتباره الحل الوحيد لإبقاءهم على قيد الحياة، وطبعًا أثارت فكرته الحيرة والاستياء، لكن كانيسا قال لهم “أنا موافق أنكم تاكلوا جسمي إذا مت”، وبالفعل عقد الجميع الاتفاق ده وأعطوا الأذن للأكل من اجسادهم في حالة الموت، لكن محدش قدر ينفذ إقتراح كانيسا إلا اتنين من المجموعة وكمل الباقى الصيام.
لكن في يوم 29 أكتوبر حصل أنهيار ثلجى كبير أدى إلى دفن جزء الطيارة اللي كانوا بيحتموا فيه، وقتل ثمانية آخرين من المجموعة، وقتها اقتنع البعض بضرورة حفظ الحياة ومحاولة أكل أجزاء من المتوفيين، لكن طبعًا مش الجميع قدر ياكل، واللي امتنعوا عن الأكل ماتوا واحد ورا التاني.

وكان آخرهم أرتور نوجيرا اللي مات يوم 15 نوفمبر بعد صيام 24 يوم من آخر وجبة أكلها يوم 22 أكتوبر، وفي النهاية القصة أسفرت عن إنقاذ 16 إنسان بعد مرور 72 يوم من الضياع وسط جبال الانديز لما قدر اتنين من أعضاء الفريق يعملوا رحلة إعجازية على الأقدام لمدة عشرة أيام في ظروف رهيبة من الجو والتعب ونقص المؤن.
في النهاية كل الناجين من الظروف القاسية كانت ليهم وجهه نظر واحدة، وهى إن الإنسان لو أمتلك مكان مناسب ينام فيه مع القليل من الطعام والشراب كل يوم فهو بمثابة إمتلاك الدنيا بما فيها.
فالحمد لله على كل حال، وده مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال “من أصبح منكم أمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنه حيزت له الدنيا بحذافيرها”.