في وسط ضجيج القاهرة ودوشة المرور في حي القلعة بتقف في شموخ وهدوء قلعة حربية مهيبة شيدت في العصور الوسطى، وكأنها بوابة زمنية بتسحبك من عالم اليوم وبتبحر بيك بين طيات صفحات التاريخ في مصر الأيوبية والمملوكية والعثمانية وصولًا لأسرة محمد علي باشا.
هنا في القاهرة.. قلعة صلاح الدين الأيوبي، أرشيف تاريخ مصر العسكري والإسلامي، وحاميها من خطر الفاطميين ومصد هجمات الصليبيين، ومقر المؤامرات الشاهد على مذبحة أمراء المماليك.

صلاح الدين وبناءه القلعة

في القرن السادس الهجري شهدت الدولة الفاطمية -الحاكمة لمصر وقتها- صراع قوي بين الوزير (شاور السعدي) و(ضرغام اللخمي) اللي استولى على منصب الوزارة بعد قهره للسعدي وقتل ابنه الأكبر.
والصراع زاد بين الوزيرين فقرر كل منهم الاستعانة بقوة خارجية عشان تساعدهم في قهر واحد منهم وتولي التاني منصب الوزير (اللي كان ليه الأمر والنهي في أمور الدولة دونًا عن الخليفة اللي كان بيقتصر دوره في الدعاء على المنابر)؛ فلجأ شاور السعدي لبلاد الشام مستعين بالملك العادل (نور الدين محمود زنكي)، في حين استعان ضرغام اللخمي بالصليبيين كقوة أكبر من الفاطميين، وبالتالي هيقدروا يساعدوه في التخلص من السعدي بسهولة؛ ولأن السعدي استعان بنور الدين محمود فقرر الملك نور الدين مساعدته وإرسال جيش معاه لمصر بقيادة أسد الدين شريكوه ومعاه ابن أخيه أبو المظفر صلاح الدين يوسف بن أيوب اللي عرف بعد كده باسم (صلاح الدين الأيوبي).
لما دخل جيش أسد الدين شريكوه على مصر قدر إنه يسيطر على الوضع وحسم الأمر في تحكيم شاور السعدي كوزير للدولة الفاطمية بعد قتل الوزير ضرغام؛ ولكن سرعان ما انقلب السعدي على أسد الدين شريكوه وأعوانه اللي ساعدوه في تولي منصبه، وتحالف مع الفرنجة ودار الصراع بين الفريقين لحد ما انقلب السحر على الساحر وانقلب الفرنجة على شاور السعدي لتأخره عن دفع الإتاوة، وأرادوا وقتها الاستيلاء على مصر كعوض عن التأخير، لكن الأمر وصل لنور الدين محمود وأسد الدين شريكوه؛ فقرروا التصدي ليهم ويهزموهم دفاعا عن مصر، ونزلوا بجيشهم اللي وصل للقاهرة في عام 564ه ونجح في التصدي للفرنجة، وبناءًا عليه أمر الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله بإلقاء القبض على شاور السعدي والحكم عليه بالقتل وتولي أسد الدين شريكوه منصب وزير الدولة الفاطمية.
لكن ما مرش وقت طويل على القرار ده ومات أسد الدين بعدها بفترة قليلة؛ فطلب الزنكيين من الخليفة إنه يولي صلاح الدين منصب الوزير كخليفة لعمه، وعلى الرغم من توتر العلاقات بين الدولة الفاطمية والدولة الزنكية إلا إن الخليفة وافق على تعيين صلاح الدين وزير للدولة الفاطمية، ومن هنا ابتدى مشوار الناصر صلاح الدين الأيوبي.

بعد تولى صلاح الدين منصب وزير الدولة وبعد ما بقى الرجل الأول في مصر، أرسل الصليبيين حملة على مصر قدر صلاح الدين إنه يتصدى ليها باستبداله الحرس الفاطميين بحرس تانيين أوفياء ليه هو، وبانتصاره على الحملة دي ثبتت أقدام الزنكيين في مصر، وفضل صلاح الدين يقوي من مركزه بين المصريين، وبعد وفاة العاضد لدين الله تولى الأيوبي حكم مصر وتصدي للفساد واستمر للجهاد في سبيل الله فيها وسحب بالتدريج المعتقدات الشيعية من البلد وثبت المعتقدات السنية، وبكدا بدأت رسميا الدولة الأيوبية في مصر؛ ولإن صلاح الدين الأيوبي رجل مغازي في سبيل الله؛ فتعفف عن إنه يسكن قصور الفاطميين اللي انتشر فيها اللهو والفساد، وفي نفس الوقت لسة مصر ما كانتش تخلصت تمامًا من خطر الصليبيين بجانب شرارة الفاطميين اللي لسة ما همدتش؛ فبالتالي فكر الناصر في مكان يكون موقع استيراتيجي يقدر يبني فيه حصن منيع يسمح له بالإشراف على العاصمة ومن خلاله يدير الحكم كحاكم للبلاد، ويعمل كمصد مهيب لهجمات الصليبيين والفاطميين وكل طامع.
وعلى الرغم من إن العالم الإسلامي فيه 3 قلاع تحت اسم (قلعة صلاح الدين الأيوبي) إلا إن قلعة القاهرة الموجودة أعلى جبل المقطم في حي القلعة هي الوحيدة اللي صلاح الدين الأيوبي بنفسه هو اللي وضع يده فيها وبناها، وهي اللي فضلت مقر الحكم في مصر لحد بناء قصر عابدين.

بين أسوار القلعة

ودلوقتي وبعد ما عرفنا القصة وراء بناء قلعة صلاح الدين الأيوبي؛ جه الوقت إننا ندخل الحصن ده ونشوف يا ترى إيه اللي موجود جواه.
أول ما تنزل حي القلعة في القاهرة وتقرب من قلعة صلاح الدين الأيوبي، وتشوف هيكلها الخارجي المكون من الأسوار والقباب والأبراج هتحس إحساس مختلط بين الرهبة والقوة والشموخ والحضارة، وهتحس إنك في سرح تاريخي بيمثل تاريخ مصر العسكري والإسلامي من عصر الدولة الفاطمية وحتى عصر مصر الخديوية؛ وده لإنك مع تخطيك باب المقطم الرئيسي للقلعة -والمعروف دلوقتي ببوابة صلاح سالم- ودخولك الساحة الملكية -اللي بتعتبر الساحة الرئيسية في القلعة-.. هتشوف آثار بترجع لعصور إسلامية مختلفة إدت للقلعة طابع تاني من مجرد قلعة حصينة كانت بتستخدم في الدفاع عن المدينة لمدينة الكاملة اللي بتحتوي على مساجد وقصور ودواوين ومصانع ومدارس حربية ومدنية، وحتى المتاحف وغيرهم من المنشآت اللي ميزتها عن غيرها من القلاع اللي بنيت في العصور الوسطى على مستوى العالم.

أول ما بتدخل الساحة الملكية هتلاحظ الارتفاع الشاهق للقلعة ومحاطة بأسوار تحصين شامخة مش باين عليها أي ضرر أو عامل قدم من عوامل الزمن، ومن خلال الأسوار دي هتقدر تلاحظ التباين الكبير بين أشكال وأحجام معالم القلعة بما فيها الأسوار والأبراج.
والسبب في كده إن قلعة صلاح الدين الأيوبي مش بس صلاح الدين اللي بناها؛ بل إنها مرت بكتير من التعديلات على مر العصور، وبالأخص في عصر محمد علي باشا اللي أضاف للقلعة معالم وشال معالم وقفل أبواب وفتح أبواب جديدة.

معالم القلعة التاريخية

أول ما نبدأ نتعمق شوية في ساحتي قلعة صلاح الدين الأيوبي هتلاحظ إن معالمها بتنقسم لـ 3 فئات رئيسيةبعيدًا عن الأبواب والأبراج المحصنة، فبتنقسم القلعة في مبانيها لقصور ومساجد ومتاحف.
بالنسبة للقصور فبعد التجديدات اللي حصلت بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي -اللي أصلا ما لحقش يسكن القلعة وتوفي قبل ما يتم بناءها-فهنلاقي (قصر الأبلق) في الساحة الشمالية، ودا القصر اللي بناه السلطان “محمد بن قلاوون” عشان يستقر فيه، واللي على الرغم من إنك مش هتشوف منه غير أنقاضه؛ إلا إنه كان بيعتبر أهم قصر في القلعة وتحفة معمارية إسلامية لم يسبق لها مثيل، وبيعتبر من ضمن أعظم أبنية عصره؛ وده بيرجع لإن السلطان محمد جمع لبناءه مهرة الصناع في البناء والزخرفة، واتكونت واجهته من أشرطة عرضية متوازية من أحجار الأبلق باللونين الأسود والأصفر، ودخل في مواد البناء ألواح من الرخام والذهب، ولكن عظمة قصر الأبلق مش بس متعلقة بأسلوب البناء، بل كمان لإنه استخدم كمركز لتصنيع نسيج كسوة الكعبة الشريفة اللي كان بيتعمل في مصر لحد القرن العشرين.

وبجانب قصر الأبلق هتشوف قصر مبني من الحجر الكلسي هيفكرك شوية ببيوت مصر القديمة بمشربياتها وأحجارها الغامقة القديمة، والقصر ده هو قصر الجوهرة اللي بناه محمد علي باشا كمقر رسمي لزوجته؛ ولإن القصر كان لزوجة محمد علي؛ فهتلاقيه مزين من الداخل بأرقى فنون الزخرفة العثمانية -سواء بالخشب أو بألواح الجص-، وبيحفل بأجمل الألوان والرسوم والنقوش، والنهارده بيستخدم كمتحف للتراث الإسلامي.

أما بالنسبة بقى للقصور الرسمية فهتشوف (سراي العدل) المتصلة بقصر الجوهرة، واللي كان محمد علي بيستخدمها في الاستقبال الرسمي، والاجتماعات مناقشة قضايا البلاد.

وكمان (قصر الحرم) اللي خصصه محمد علي كمقر رسمي يسكن فيه مع أسرته، واللي اتحول بعد كده في ظل الاحتلال البريطاني لمقر للحاكم العسكري في الجيش، وبعد كده تم استخدامه كمستشفى لقوات الاحتلال لحد ما استردته الحكومة المصرية في عهد الملك فاروق الأول، وخضع من وقتها للجنة حفظ الآثار العربية واتحول لمتحف حربي بعد تولية أمره لوزارة الحربية، وبقى بيعتبر المتحف الرسمي للجيش المصري بعد ضمه لمجموعة هائلة من الأسلحة الجوية والصواريخ الحربية.

المساجد

سمعت قبل كده عن مدينة الألف مئذنة، لو ما سمعتش، فخليني أقول لك إن ده لقب بيطلق على مدينة القاهرة العاصمة المصرية، واللقب الحقيقة مش من فراغ؛ فالقاهرة بتزخر بمئات المساجد منها الأثرية ومنها الحديثة، وقلعة صلاح الدين الأيوبي في القاهرة لوحدها بتضم 4 مساجد أثرية منهم مسجد بيعد أول المساجد اللي بنيت في مصر على الطراز المعماري العثماني؛ ألا وهو (مسجد سليمان باشا الخادم) اللي بناه الوالي العثماني سليمان الخادم بين ثنايا قلعة صلاح الدين الأيوبي، وبتكمن أهميته في إنه أول مسجد بني في مصر بالفن العثماني الإسلامي.

ومن ضمن المساجد اللي بتحتضنها قباب قلعة صلاح الدين الأيوبي مسجد الناصر قلاوون؛ أحد أهم المساجد المملوكية اللي مزجت كل الفنون المعمارية في بناء واحد، واللي شرع في بنائه السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون عام 1318م، واتعرف بالجامع الناصري، وكان بيعتبر المسجد الرئيسي الجامع لمصلين القلعة ومن حولها طيلة الحقبة المملوكية والعثمانية على مصر.
أما عن تصميم الجامع، فلو بصيت عليه من فوق هتلاقيه بياخد شكل مربع في وسطه ساحة مفتوحة بتتخلل 4 أروقة أو زوايا؛ زاوية القبلة والمنبر -وهي الأكبر-، و3 أروقة تانيين للمصلين وبيعلوهم قبة خضراء أشبه بقبة المسجد النبوي الشريف، وكانت بتعتبر أهم القباب المملوكية في مصر، والمسجد في العموم هيديك نبذة لا بأس بها عن العمارة الإسلامية في العصر المملوكي.

كل المساجد اللي فاتت دي كوم ومسجد محمد علي باشا كوم تاني، وعشان تتخيل معايا أهمية المسجد ده، هقول لك إن أغلب الناس بتطلق على قلعة صلاح الدين الأيوبي بالمقطم اسم قلعة محمد علي للشهرة الكبيرة اللي بيحظى بيها المسجد ده من بين كل مساجد القلعة.
مسجد محمد على باشا أنشأ في الفترة ما بين عام 1830 لعام 1848م واللي اتبنى على الطراز العثماني على غرار جامع السلطان أحمد بإسطنبول اللي بيدعى أحيانا بمسجد المرمر لملء جدرانه برخام المرمر، وهنلاقي كمان إن مسجد محمد علي فيه شوية من مسجد آيا صوفيا المقابل لمسجد المرمر بإسطنبول.
واهتم خلفاء محمد علي باشا بمسجد محمد علي بالقلعة؛ وأتموا بناءه وأضافوا ليه بعض الإضافات واللمسات البسيطة، وجعلوا منه مقر للاحتفال بالمناسبات الدينية السنوية.

باب الدم

بعد ما تخلص جولتك في قلعة صلاح الدين الأيوبي وتطوف بين عصور مصر المختلفة وتحوم بين الجوانب العسكرية والجوانب الروحية فيها، هييجي وقت الخروج، وأنصحك تخرج من باب العزب، عشان زي ما عيشت الجانب العسكري والإيماني في القلعة تعيش لحظات القتال والمؤامرات.
وخليني في الأول أقولك إيه هو باب العزب، باب العزب بيعد واحد من أبواب قلعة صلاح الدين الرئيسية، وبيعتبر من أضخم وأجمل المنشآت الإسلامية بالقاهرة اللي بناها السلطان الحلبي رضوان كتخدا، وبيشبه في واجهته بابي الفتوح وزويلة؛ إلا إن باب العزب -في تاريخه- أشرس كتير من البابين دول.
الباب مكون من برجين ضخام ليهم واجهة مستديرة موجود بينهم سقاطة كانت بتستخدم في ريعان القلعة لإلقاء الزيت المغلي على الأعداء اللي بيحاولوا يكسرو البوابة، وشراسة باب العزب ما وقفتش عند الزيت المغلي وبس بل إن نفس الباب ده هو اللي حصل فيه الواقعة الشهيرة المعروفة باسم مذبحة القلعة اللي أباد فيها محمد علي باشا المماليك.

اللي حصل إن بعد تولي محمد علي حكم مصر في يوليو 1805م، عرف إن فيه اتصالات سرية بين المماليك ضده، وفي الوقت ده كان محمد علي عامل حفل ضخم في القلعة للاحتفال بتولي ابنه أحمد طوسون باشا قيادة حملة متجهة للحجاز؛ فقرر محمد علي باشا إنه يدعي كبار المماليك للحفل ده وخطط لهم مكيدة يتخلص بيها منهم، وأثناء ما الحفل شغال وأثناء موكب تكريم أحمد طوسون اللي كان بيسير في اتجاه باب العزب، وأول ما اجتازت مقدمة الموكب -اللي كانت مكونة من المماليك- باب العزب، اتقفل الباب على المماليك، واعتلى جنود محمد علي باشا أبراج الباب، وبدأوا في إطلاق الرصاص على المماليك من أعلى، واتقتل أغلبهم بالفعل لكن حاول بعضهم الفرار؛ إلا إن اللي ما ماتوش منهم تم ذبحهم فيما بعد، وامتلأ فناء القلعة بالجثث والدم.
ويقال إن الحي المقابل لباب العزب امتلأ هو كمان بالدم واستغرق فترة طويلة للتخلص من آثاره فيه؛ فسماه المصريين بحي الدرب الأحمر.