شهر رمضان المبارك أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات بيرتبط بالعديد من الشعائر الدينية، واللي وإن كانت مستحبة في كل أيام العام إلا إنها ليها طابع خاص وثواب خاص في أفضل الشهور عند الله عز وجل، واللي منها صلاة التراويح والاعتكاف والصدقات وإطعام الفقراء، وطبعًا فريضة الصوم؛ وعشان كدا الناس بدأت يتفننوا في الأكلات والمشروبات خلال وجبة السحور عشان تقدر تتحمل الصيام خلال نهار رمضان، وفي نفس الوقت تكون الأكلات والمشروبات دي عند المغرب بمثابة المكافأة على الصبر طول اليوم فـ للصائم فرحتان “فرحة حين يُفطر وفرحة حين يَلقى ربه”، ومن هنا بالغت بعض الشعوب وعلى رأسهم المصريين طبعًا نتيجة لبعض التأثيرات التراثية وربطت بين بعض أنواع المأكولات وشهر رمضان، فأول ما رمضان يقرب وكل بيت يبدأ في شراء الياميش، فياترى ايه الياميش ده، وازاى بدأ، وليه ارتبط بيه المصريين؟

أصل كلمة ياميش

كلمة الياميش نفسها مختلف في أصلها، فالبعض بيعتقد أنها من أصل تركي أو فارسي أو حتى فرعوني، بينما بيعتقد البعض الآخر إن أصل الكلمة من اللغة العربية، فطبقًا للسان العرب لابن منظور “فعل يميش بمعنى يخلط، ماش، يميش، ميشا” فمعنى “يميش اللبن أي يخلط اللبن الحلو على اللبن الحامض”، و”يميش الكلام أي يخلط الجد بالهزل أو الصدق بالكذب” وهكذا، وبصرف النظر عن المعنى اللغوي فإن المعنى الاصطلاحي لكلمة الياميش هو “الفاكهة المجففة والمكسرات”، مفيش مصري يسمع كلمة ياميش إلا وذهنه يذهب فورًا للأنواع المختلفة من الفواكه المجففه، واللي زي “البرقوق المجفف اللي اسمه القراصيا أو التين المجفف، أو العنب المجفف أو الزبيب، أو المشمش المجفف واسمه الشعبي قمر الدين،بالإضافة للبلح المجفف وكل أنواع التمور.

وكلمة الياميش بتجمع كمان أنواع كتيرة من المكسرات زي “البندق والفستق واللوز والكاجو والصنوبر والفول السودانى إضافة إلى الجوز واسمه الشعبى عين الجمل”، كل الحاجات اللي فاتت دي مجموعة إسمها على بعض الياميش، وبيتم خلط المكونات السابقة دي أو بعضها حسب الحالة الاقتصادية لكل أسرة مع الحليب أو الماء والتمر، وبيتعمل منها بعض المشروبات الشعبية من التراث المصري زي “الخشاف وقمر الدين والمهلبية” وغيرهم، بالإضافة كمان إنهم بيدخلوا في أكلات رمضانية من الدرجة الأولي زي “الكنافة والقطائف”، ومن هنا جت كلمة ياميش، يعني الأكل أو الشرب اللي مخلوط كله على بعضه.
وطبعا بالإضافة للطعم اللوز للفواكه والمكسرات الياميش بيمد الجسم بكميات كبيرة من المياه وبيساعد في الشعور بالشبع وتخفيف نسبة امتصاص السكر والدهون في الجسم، وبيحتوى على الفيتامينات وبروتينات وكالسيوم وفسفور وحديد ودهون غير المشبعة، وطبعًا أنا سامع واحد دلوقتي بيقول ده إسراف وتبذير كفاية التمر والحليب، وطبعًا كلامه صحيح منقدرش نعترض، ورغم إنها مأكولات حلال ومفيش فيها حاجه إلا إن النوع ده من المأكولات بيعتبر من أغلى الأطعمة، والاكتفاء بالتمر واللبن مع بعض أو حتى مع نوع أو اتنين من الياميش أكتر من كفاية.
وهو ده اللي بالفعل بيعمله السواد الأعظم من المصريين دلوقتي، وعملية شراء كل أنواع الياميش أصبحت من التراث والتاريخ الثقافي للبلاد، وقصة الموضوع ده بقى هنفهم منها إزاى بدأ الياميش وليه المصريين اتعلقوا بيه.

بداية الياميش مع المصريين

المصريين من قديم الأزل واشتهروا بالربط بين مظاهر الاحتفالات وتقديم الحلوى والولائم والقرابين، وساعدت التربة الخصبة ووفرة المياه النهرية في أرض مصر سكانها على زراعة العديد من المحاصيل الغذائية، وعلى سبيل المثال كان عيد الأوبت خلال موسم فيضان النيل بمثابة تجدد الحياة لتجدد الأراضي الزراعية والمحاصيل، وكان العيد ده رمز للكرم والخيرات في البلاد؛ وعشان كده كان الملك بيخرج ويوزع الحلوى والعطايا على الشعب والقرابين للآلهة بزعمهم.
واستمرت ثقافة الاحتفالات بالطعام والشراب خلال كل عصور مصر القديمة حتى بعد انتهاء عصر القدماء المصريين وخلال العصور اليونانية والرومانية والقبطية، الكل كان بينغمس في الثقافة الشعبية المصرية، بل بيحتفلوا بنفس الأعياد وبيعملوا نفس الطقوس وبيبنوا المعابد على الطراز الفرعوني، واستمر الحال كده حتى دخول الإسلام مصر، واللي من بعد دخوله بدأ في تهذيب وتغيير عادات الناس لحد كبير، وإن استمرت بعض المظاهر والاحتفالات متأصلة نتيجة للموروث الشعبي الطويل، وكانت 300 سنة من الإسلام كانت غير كافية للقضاء تمامًا على الموروث الشعبي العتيق.
وفي عام 301 من الهجرة بدأت محاولات الفاطميين العُبيديين لضم مصر لدولتهم الوليدة واللي بدأت في أجزاء من شمال إفريقيا وتوسعت حتى المغرب الأقصى، واستمرت المحاولات دي لحد ما دخلوا الفسطاط وأسسوا القاهرة عام 358 من الهجرة، ومع دخول الفاطميين لمصر بدأوا في إحياء كل مظاهر التراث المصري القديم؛ لاسترضاء المصريين وتوطيد الحكم، وعشان نفهم الموضوع وعلاقة الفاطميين بالياميش محتاجين نرجع بالزمن لورا شوية ونفهم طبيعة المجتمع المصري وظروف ارتباطه بالدولة الفاطمية، واللي من خلاله هنفهم سبب تعلق المصريين ببعض العادات والتقاليد والطقوس من عصر الفاطميين واللي منها موضوع حلقتنا اليوم عن كيفية ارتباطهم بالياميش.

استغلال الخليفة الفاطمي المعز لدين الله

قبل دخول الفاطميين العُبيدين لمصر كانت الخلافة العباسية بدأت تضعف وتأثرت كثيرا بحادث فرقة القرامطة الشيعية الإسماعيلية واللي نشأوا في البحرين وهاجموا مكة في موسم الحج وقتلوا آلاف وسرقوا الحجر الأسود واللي اختفي لمدة 22 سنة كاملة.
في الوقت ده دب الخلاف في فرقة القرامطة وبعضهم وخرج منهم واحد اسمه “عبيد الله المهدي” عارض القرامطة وهرب ومعاه جماعة من المؤيدين لمصر، ومنها لشمال أفريقيا وبدأ هو وجماعته في تأسيس دولة العُبيديين وادعوا أنهم من نسل السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وسموا نفسهم الفاطميين، ومع اتساع الدولة ووصولها للمغرب الأقصى ببلاد المغرب الحالية بدأوا في الاتجاه للشرق محاولين التوسع تجاه موطنهم الأصلي وأرض الخلافة، وكانت الخلافة العباسية في الوقت ده في حالة ضعف واتشكلت ممالك ودول محلية بتتبع الخلافة بالاسم بس لكنها شبه مستقلة، ومن الممالك دي الدولة الطولونية وبعدها الدولة الاخشيدية في مصر، وكانت الأوضاع في مصر مضطربة وكتير من الناس في حيرة من تصرفات الممالك ومدى شرعيتها، والعُبيديون استغلوا الظروف دي وبدأوا يبعتوا العلماء بتوعهم لمصر عشان يبشروا بالمذهب الشيعي الإسماعيلى الفاطمي.
وبدأوا يتنكروا لفرقة القرامطة اللي هما منهم في الأصل ويقولوا إنهم مع المسلمين وإن الشيعة وأهل السنة أخوات وكلهم إيد واحدة ضد القرامطة والكلام ده، وحاولوا يفهموا طبيعة الشعب المصري وتاريخه ووسائل استرضاؤه وكمان وطرق احتفلاته.
ومع الاستجابة البطيئة لعموم الشعب المصري بدأ العبيديون يعملوا حملات عسكرية واللي تصدى ليها محمد الاخشيدي، واستمرت المحاولات العبيدية واللي كانت بتسفر أحيانًا عن نجاحات جزئية لكن في الأخر تم طردهم من البلاد، لغاية ما مات محمد الاخشيدي وتولى بعد منه كافور الاخشيدي واللي هو كان وصي على الملك الصغير أنوجور بن محمد الاخشيدي.
وعشان منطولش زيادة عن اللزوم في الحتة دي اللي حصل إن فيه اضطرابات زادت ومعاها زادت حيرة الشعب ومبقوش عارفين هما تبع العباسيين ولا الإخشيديين ولا الكافوريين، وكالعادة في كل المشاكل اللي بتحصل في كل البلاد زادت الضرائب والمجاعة وساءت حالة البلاد بطريقة غير مسبوقة، والشعب المصري عزل نفسه عن كل أطراف الصراع، واستغل الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الظروف دي وأرسل قائده جوهر الصقلي على رأس حملة ووصاه بإستمالة المصريين ومعاملتهم معاملة حسنة وتأمنيهم على أموالهم وحرية مذهبهم وتاريخهم وثقافتهم.
وبالفعل وصل جوهر الصقلي للفسطاط عام 358 وخطب في الناس من جامع عمرو بن العاص السني وطمنهم على حرية مذهبهم وعلى احترامه للصحابة وعلماء أهل السنة، بل احترامه لكل الطوائف والعقائد لأهل الكتاب، واحترامه كمان لكل الموروثات الشعبية المصرية، وبصرف النظر أن العُبيديين استخدموا مبدأ التقية أو كانوا غير مهتمين بالعقائد من الأساس وكان كل همهم السلطة والحكم، وبالفعل استمر جوهر الصقلي في سياسة التسامح الديني والمذهبي وعين القضاة من مذاهب أهل السنة وفصل جنوده تمامًا عن الشعب المصري وبدأ في تأسيس مدينة القاهرة استعدادًا لاستقبال الخليفة، ومع وصول الخليفة أول أيام رمضان خرج الناس لاستقبال بشائر الخير بالمشاعل والفوانيس المضاءة بالشموع، واللي هتتحول من يومها لعادة مصرية متكررة في رمضان.

نجاة الياميش والكنافة

ومع وصول الخليفة بدأ جنوده في توزيع الحلوى والفاكهة وسط الزغاريد ودقات الطبول، واستمر التسامح الديني من الخليفة وأنشأ مدارس لتعليم الفقه السني بل إنه عين قاضي القضاة من أهل السنة.
واستقبلت مصر العديد من العلماء والتجار من كل دول الإسلام، واتميزت بدايات العصر الفاطمي بالفخامة والكرم والاحتفالات، وكانت الدولة بتخصص مبلغ من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك والمكسرات والفواكه، وكان بيتم صرفهم للمساجد في شهر رمضان وكانت بتعقد الأسواق التجارية خلال شهر رمضان في القاهرة الفاطمية، والتجار كان بيجولها من بلاد الشام وإيران وتركيا والهند ببضائع جديدة ونادرة في مصر، وانتشرت أسواق الشماعين يعنى بائعو الشموع والفوانيس بالإضافة لسوق الحلاوين بائعو الحلويات.
وبيحكي المقريزي المؤرخ المصري الشافعي عن 38 سوق كانت بتعج بيهم القاهرة الفاطمية، وكان باب زويلة وبوابة المتولي بالغورية وغيرهم بيبيعوا أنواع الفواكه المجففة والمكسرات اللي جاية من خارج مصر، وكان تجفيف الفواكه وقتها من باب الحفاظ على البضائع بدون ما تفسد خلال السفر، وكانت المكسرات الغير منتشر زراعتها في مصر من أجمل الهدايا والعطايا بين المصريين.
وغير اسواق الياميش والشموع انتشرت الكثير من العادات الفاطمية زي المسحراتي وخروج الناس مع الخليفة بالليل مع الفوانيس المضاءة لاستطلاع الهلال والاستعداد لمكسب الحلويات والكنافة والقطايف والياميش وقمر الدين، ومع مرور الوقت والسماح بكل الأفكار بدأت الخلافات تدب بين أصحاب المذهب العبيدى نفسهم وخرج منهم أكتر من فرقة، وزادت في مصر البدع والاحتفالات غير المشروعة وبدأ يشعر كتير من الناس يشعروا إن الموضوع وصل للتهريج، وبدأ علماء أهل السنة يتصدوا للبدع دي، ومن هنا بدأت الخلافات ولمز وسب الصحابة.
وبيقول الدكتور عودة حسان أبو شيخة أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة، إن الفاطميين اتخذوا من طقوسهم الجذابة المحببة للنفوس حيلة لاسترضاء الشعب المصري واتخذوا من الشعور الديني لدى المصريين وتقديسهم لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم حيلة تانية تيسر لهم ترسيخ مذهبهم في المجتمع المصري، لكن كتير من الشعب المصري لم يخيل عليه لا الحيلة الأولى ولا التانية، وانضموا لصف صلاح الدين ولم يعبأوا بسقوط الفاطميين، بل تم تحويل الجامع الأزهر واللي تم انشاؤه لنشر المذهب الشيعي لأكبر جامعة سنية في العالم الإسلامي، ورغم انهيار الدولة الفاطمية بقيت آثارها في ثقافة ووجدان الشعب المصري وذهب الخليفة الفاطمي ونجت الكنافة وياميش رمضان.