بعد إخراج ألمانيا النازية من الحرب بدأ الحلفاء في برنامجهم الفضائي انطلاقًا من الأبحاث الألمانية المتطورة، وتبادل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الانتصارات، لكن السبق كان للسوفيت، وقدر “يورى جاجارين Yuri Gagarin” إنه يسجل اسمه كأول إنسان يخرج للفضاء، واضطرت أمريكا للإنتظار 8 سنوات حتى ترد بإرسال “أرمسترونج Armstrong” سنة 1969 للقمر، وعلى الرغم من أن الخطوة الأمريكية مهدت الطريق فيما بعد لكتير من الدول لتطوير برنامجهم الفضائي، إلا أنها أنهت تمامًا مغامرة دولة زامبيا الأفريقية للفوز بالسباق.

حماس ماكوكا الكبير

مبدئيًا كدا كل المعلومات المتوفرة عن برنامج زامبيا الفضائي مصدرها شخص واحد بس، هو “إدوارد ماكوكا نكولوسو Edward Makuka Nkoloso”، بطل قصتنا النهارده، أتولد ماكوكا في عام 1919 بروديسيا الشمالية “الإسم الأصلي لجمهورية زامبيا قبل الاستقلال”.
ماكوكا كان انسان متدين وبسيط ومالوش أي اهتمامات بالعلوم ولا أي شئ بخلاف بعض الدراسات اللاهوتية في محاولة أنه يكون كاهن ومُبشر مسيحي، لكن مع قيام الحرب العالمية الثانية أشتعلت بريطانيا لجأت لتجنيد قوات متفرقة من مستعمراتها اللي في كل مكان، وفي وسط فوج روديسيا الشمالية تم تجنيد ماكوكا، وكان الانضمام لمعسكرات قوات الاحتلال نقطة تحول في حياة ماكوكا خصوصًا بعدما تم تعينه في سلاح الإشارة، وفي معسكرات التدريب البريطانية انبهر ماكوكا بأنواع الطائرات والصواريخ والتكنولوجيا؛ ونتيجة لعمله في سلاح الإشارة وفكرة القدرة على التواصل مع شخص بعيد بواسطة التكنولوجي، زاد شغفه بأعمال المراقبة والاتصال عن بعد، والنظارات المُعظمة والتلسكوبات اللي بتراقب السما والنجوم كانت ذروة سنام إبهار ماكوكا خلال فترة تجنيده.
وبالفعل اجتهد ماكوكا في بعض القراءات وحاول تحصيل كل اللي يقدر عليه من علوم وتكنولوجيا، وقتها قوات الاحتلال كانت وعدت مستعمراتها بالحصول على الاستقلال لو انتصروت في الحرب عشان يشجعوهم على القتال، ومع انتهاء الحرب بانتصار الحلفاء وعدم تنفيذ الوعود بدأت بريطانيا تسترضي البعض عشان تهدي المطالبة بالاستقلال.
ومن جملة الإجراءات اللي أخدوها إنهم عينوا ماكوكا في وظيفة مدرس علوم بأحد المدارس الإبتدائية، وبالفعل بدأ ماكوكا عمله وكان سعيد جدًا ونشيط، ودرّس في المدرسة الحساب والدين، لكن مع حماس الراجل الكبير والتجارب اللي كان بيعملها وسماع أصوات ضوضاء وانفجارات في الحصص، تم فصله، لكن الموضوع كان كبر في دماغه لدرجة إنه مكنش ينفع قوة توقفه.

مدرسة ماكوكا الخاصة

الراجل رجع قريته وأنشأ مدرسة خاصة بدون تصريح، واستمر بعض الوقت لغاية ما السلطات عرفت وقفلوله المدرسة دي كمان، وقتها سلطات الاحتلال كانت عايزة تسكته وخلاص فكانوا عايزين يعينوه في أي حاجه يشبع بيها فضوله ويبطل دوشه، فتم تعينه كبائع أدوية في شركة بمدينة “ندولة الزامبية”.
مدينة ندولة كانت مشهورة بمناجم النحاس وعمليات التعدين؛ فاستغل ماكوكا تجمعات عمال المناجم وبدأ يحرضهم على سلطات الاحتلال، وطبعًا حكالهم عن إيقافه عن التدريس وإغلاق مدرسته الخاصة، واعتبر إن دي حرب علمية من جانب قوات البيض لعرقلة أي تقدم علمى للسود.
وبالفعل نجح في إنه يعمل اضطراب كبير في صف العمال، ووقتها حاولت قوات الاحتلال القبض عليه فهرب للأدغال مع مجموعة من أصدقائه وعلى رأسهم “ديفيد كاوندا David Kaunda” زميل الكفاح القديم بفوج روديسيا الشمالية، واللي هيبقى فيما بعد أول رئيس لزامبيا المستقلة.
في الفترة دي اتشكلت حركة مقاومة زامبية اشتهرت بالسلمية لحد كبير وكانت نواة لتكوين حزب الاتحاد الوطني اللي تشكلت منه أول حكومة في تاريخ زامبيا المستقلة بعد كدا، واقتصرت أعمال الحركة كلها على حشد الناس وتقليبهم على الاستعمار.
وخلال الفترة دي كانت وسائل الإعلام بتنقل اشتعال سباق الفضاء بين روسيا وأمريكا، وبما إن الموضوع مرتبط بهواية ماكوكا القديمة من علوم وتكنولوجيا وتلسكوبات وصواريخ، استهوى ماكوكا الموضوع بشدة، الراجل وطني ومناضل وعايز بلده أحسن بلد، وكمان الحكاية مرتبطة بفرع من العلوم هو بيحبه؛ وعشان كدا اتخذ الرجل قرار جرئ بإنشاء معهد وطني لدراسة الفضاء، وفي قطعة أرض زراعية تبعد 11 كيلومتر عن لوساكا بدأ دراسة القمر والكواكب.

بل إنه بدأ في الحديث عن أفكاره لأهل قريته ومعارفه، ولخص أحلامه كلها في رغبته انه يخلى روديسيا تهزم الولايات المتحدة وروسيا وتقدر توصل للقمر والمريخ قبلهم، ومع الحصول على الاستقلال في أكتوبر 1964 كان حلم ماكوكا لإعطاء زامبيا المستقلة المجد كله بيقترب أكتر وأكتر، ولما كان عمر زامبيا المستقلة أسبوع واحد فقط توافدت الصحف ووكالات الأنباء لتغطية الأحداث وإجراء الحوارات مع الحكومة الجديدة والشخصيات الشهيرة وزعماء المقاومة، وكان من ضمن برنامج الزيارة معهد ابحاث الفضاء الخاص بماكوكا، واللي أطلق عليه “الاكاديمية الوطنية للعلوم وأبحاث الفضاء والفلسفة”.
وكان ماكوكا بيدرب في المعهد اللي أطلق عليهم “الأفرونوتس Afro nauts” وهو مصطلح اخترعه ماكوكا وأطلقه على رواد الفضاء الزامبيين إختصارًا لـ African” Astronauts” أي رواد الفضاء الأفريقين.

البرنامج الزامبي الفضائي

وقبل ما نشرح البرنامج الزامبي الفضائي زي ما وضحه ماكوكا لوكالات الأنباء، نحب ننوه إن كل المعلومات اللي هنذكرها بالرغم من طرافتها إلا أنها واقعية 100%، بل تم توثيقها بالصوت والصورة، وموجود فقرات وتسجيلات كتير على اليوتيوب مع ابطال القصة الحقيقيين.
بعد مقدمة بسيطة من ماكوكا سأله مراسل الاسوشيتد برس عن الميعاد المتوقع لتحقيق الإنجاز، وكان رد ماكوكا إن كل شئ جاهز من زمان وكان المفترض إيصال الطاقم في نفس يوم استقلال زامبيا لكن بعض العقبات المالية عطلت الإنجاز، وأضاف ماكوكا إنه طلب من اليونسكو والعديد من الدول معونات مالية، وإنه بيتوقع في حالة الاستجابة لطلباته إنجاز العمل قبل عيد الاستقلال القادم في 1965.
ولما سأل المراسل عن صاروخ الإطلاق أجابه ماكوكا إنه تم تصنيعه بالفعل من النحاس والإلومنيوم، وبالفعل عرض “طبلة” افريقية كبيرة على شكل إسطواني طولها ثلاثة أمتار وعرضها تقريبًا مترين، وأشار أن ده هو الصاروخ اللي اطلق عليه “D – Kalu one” في إشارة لإسم رئيس زامبيا الأول “ديفيد كاوندا David Kaunda”، ولما سأله أحد المراسلين عن ثقته في إن الشئ ده يقدر يطير؟، أجاب ماكوكا بحجه قاطعة على شكل سؤال استنكاري وقال “إذا كانت الطيور ضعيفة العقل بتقدر تطير إزاي الإنسان يعجز بعقله ده إنه يطير”.

ووقتها سأله المراسل عن مكان تركيب المحركات في الصاروخ، فقاله ماكوكا إن قوة الدفع هتعتمد على نظام إطلاق نار بواسطة جهاز يشبه المنجنيق، ووقتها المراسل سأله سؤال تعقيدي قاله “طب إزاي أعداد رواد الفضاء الكبيرة اللي بيتم تدريبهم الصاروخ الصغير ده هيستوعبهم، واللي كان عددهم 11 رائد فضاء؟”.
وهنا ماكوكا أزال اللبس لما وضح إن الطاقم اللي هيسافر هما أربع مخلوقات فقط، البنت الوحيدة من الـ 11 واللي اسمها “ماثا موامبا Matha Mwamba”، بالإضافة لشاب هيتم اختياره من المجموعة واللي هتوكل له مهمة التبشير بالمسيحية لسكان المريخ، بالإضافة لقطتين من قطط موامبا.
فسأله المراسل “هو أنت متأكد إن فيه سكان أصلًا على المريخ؟”، فقاله ماكوكا “إنه بقاله سنين في حالة مراقبة مستمرة عن طريق التلسكوبات، وانه يقدر يؤكد وجود سكان بدائيين عايشين على سطح المريخ”.
وقتها المراسل حاول ضبط النفس وسأله عن سبب إرسال القطتين، فأجابه ماكوكا بأن ماثا موامبا هي أفضل رواد الفضاء عنده وحجزت مكانها خلاص في الرحلة خصوصًا إنها أنثى، وهو عايز زامبيا تكون صاحبة الريادة في إرسال النساء للفضاء، والقطتين هيمثلوا تحفيز نفسى كبير ليها، واستنكر سؤاله عن القطط في الوقت اللي محدش سأل فيه روسيا ولا أمريكا عن الكلاب والقرود اللي بعتوها.
وبدأ إن ماكوكا عايز يضيف حاجة لكنه متردد، لكن المراسل شجعه إنه يستمر، فقال ماكوكا: “القطتان كمان هما عبارة عن ملحقات تكنولوجيه”، طبعًا المراسل عمل أيرور Error”: ملحقات تكنولوجيه إيه؟، أجابه ماكوكا إنه حين الوصول للمريخ القطط هتخرج من المركبة الأول لمعرفة مدى تأثير طبيعة المريخ على مخلوقات الأرض، فلو القطط تحركت بشكل طبيعي يبقى ده دليل على هبوط آمن للبشر.
وقتها المراسل مقدرش يمسك نفسه من الضحك؛ اتنرفز ماكوكا جدًا وقاله: “أنا عارف إن كتير من البيض فاكرين أني مجنون، ولكن أنا اللي هضحك أخيرًا لما يشوفوا علم زامبيا بيرفرف على القمر والمريخ”.
المراسلين كملوا أسألتهم ماكوكا عن سبب التدريبات الغريبة اللي شايفنها من رواد الفضاء اللي كانوا بيتمرجحوا وينطوا ويجروا ورا بعض ويمشوا على إيديهم، فشرح لهم ماكوكا إن التدريبات دي هدفها التغلب على مشكلة انعدام الوزن، وعشان كدا هو شايف إنه المفروض يتمرنوا على المشي على إيديهم بإعتبارها الطريقة اللي ممكن يحتاجوا يمشوا بيها على سطح الكواكب التانية.

الصدمة

الطريف بقى إن بعد انتهاء زيارة الصحف ووكالات الأنباء لماكوكا ومجموعته، قام ماكوكا بالإبلاغ عنهم، وقال إن هدف المراسلين دول هو جمع المعلومات لعرقلة مشروع زامبيا الفضائي، لكن وقتها محدش من الحكومة الزامبية استجاب له، واستمرت أحلام ماكوكا والبرنامج بتاعه، وكان كل سنة يأجل عملية الإطلاق ويتعلل بعدم وصول المساعدات مرة وعدم الحصول على إذن بالإطلاق من الحكومة مرة تانية.
واستمر الوضع لغاية ما أعلنت أمريكا أولى خطوات نيل ارمسترونج على القمر سنة 1969، وياريت بلاش ندخل في خناقة في التعليقات أمريكا ساعتها طلعت القمر ولا مطلعتش؛ لأن اللي شايفين أمريكا مطلعتش عندهم أدلة واللي شايفين إنها طلعت عندهم أدلة، فالجدال في الموضوع سفسطائي ومش بيوصل لنتائج في الأخر.
المهم أن وقتها وقع الخبر كان قاسي جدًا على ماكوكا ومجموعته، وده الأمر اللي أدى إلى إهمال التدربيات، واشتكى ماكوكا لوسائل الإعلام من عدم جدية المتدربين، وإنهم افتكروا نفسهم نجوم سينما وكل شوية يطالبوا بزيادة أجور وأدمنوا الخمر والرقص، لكن الشعرة اللي قسمت ظهر البعير وأنهت البرنامج فعليًا كانت حادثة حمل ماثا موامبا، وده اللي خلى أهلها يستدعوها للزواج وأنهاء المغامرة، بالإضافة إن ماكوكا ادعى أن الصاروخ تعرض للتخريب من قبل عناصر أجنبية، ومع السبق الأمريكي وخسارة أهم رواد الفضاء إنهار البرنامج الزامبي تمامًا، لكن طبعًا مكانش ينفع عدم الاستفادة بماكوكا ككادر زامبي من زعماء المقاومة القدامى، الرئيس كاوندا أنشأ مركز أسماه مركز التحرير وعين ماكوكا مدير له، وكان الهدف من المركز ده نشر أفكار التحرير ومساعدة البلدان الأفريقية للحصول على الاستقلال، وفضل ماكوكا في إدارة المركز حتى وفاته سنة 1989.

إنصاف ماكوكا

وقبل ما نختم خلينا نعرض بعض الآراء اللي حاولت إنصاف ماكوكا، ففي مقابلة صحفية عام 2016 مع الرئيس السابق كاوندا صاحب الـ 92 عام وزميل الكفاح، ضحك كتير لما تم سؤاله عن برنامج ماكوكا وقال “لم يكن شيئًا حقيقيًا، كان للتسلية أكثر من أي شئ آخر، كان أمرًا مطلوبًا بعد الاستقلال أن يحلم الناس ويتعلقوا بالأهداف”.
وفي حوار مع الملحق الإعلامي لسفارة زامبيا بواشنطن قال “ماكوكا كان وطنيًا ومقاتل مخضرم وكان رجلًا ذكيًا للغاية”.
وأشار البعض إن البرنامج كان غطاء للتعبئة السياسية بهدف إعداد كوادر، واستدلوا بدوره اللي عمله بصورة علنية في مركز التحرير.