تخيل معايا كده إن مُحصل النور بيخبط عالباب، قمت تفتحله وبتقوله عليا كام، قالك شهر واحد بـ 2 مليون جنيه.
الحقيقة بقى إن الموقف ده اعتاد عليه أهل زيمبابوي لسنين طويلة، محصل نور أو مياه أو كاشير في السوبر ماركت يدخل الواحد عليه وهو شايل بيضتين وعلبة عصير مثلاً وتلاقي الحساب بالمليارات، بل إن رغيف العيش الواحد بس وصل سعره لـ 30 مليار دولار زيمبابوي.
حتى إن آلات البيع اللي بتشتغل بالعملات النقدية توقفت تمامًا عن البيع؛ لأنها ببساطة ما تقدرش تشيل ملايين العملات المطلوبة مقابل علبة بيبسي واحدة، فيا ترى إيه اللي حصل وإزاي الموضوع وصل بالبلاد للمرحلة دِه؟

قائد زيمبابوي

زيمبابوي هي دولة غير ساحلية بتقع في جنوب القارة الإفريقية، بتتمتع بطبيعة ساحرة وأرض خصبة صالحة للزراعة لدرجة إنها اتعرفت بإسم “سلة خبز إفريقيا” من وفرة الإنتاج الزراعي على أراضيها وخصوصًا من القمح، وفي نفس الوقت البلاد ملعونة بوفرة من المعادن الثمينة من دهب وألماس وبلاتينيوم ونحاس وغيرها؛ وده كان السبب الرئيسي وراء كونها مطمع استعماري ضخم على مر السنين.
وفي نهاية القرن الـ 19 ميلاديًا احتلتها شركة جنوب أفريقيا البريطانية تحت قوة السلاح؛ طمعًا في ثروتها المعدنية، وبعدها أصبحت البلاد مستعمرة بريطانية تتمتع بحكم ذاتي ومعروفة بإسم روديسيا الجنوبية، وفضل الوضع على ما هو عليه لحد مطلع التمانينيات من القرن الـ 20، وقتها نجحت البلاد في الحصول على استقلالها وأصبحت جمهورية زيمبابوي في 18 ابريل عام 1980 ميلاديًا، وكانت نتيجة أولى الانتخابات في البلاد بعد الاستقلال، هي فوز الحزب الوطني وتولى القائد الزيمبابوي “روبرت موجابي
Robert Mugabe” كرسي الحكم، واللي بمجرد ما مسك في الكرسي بدأ حكمه الرشيد بتعزيز قوته وفرض هيمنته على كل شبر من أرجاء البلاد، ونصب نفسه فرعون على أهلها، وأعطى لنفسه السلطة لحل البرلمان وأعلن الأحكام المعرفية، وقضى على كل معارضيه.
وبالرغم من معاناة الشعب الزيمبابوي وقتها من الفساد المنتشر في أرجاء البلاد وأجهزتها الحكومية إلا ان المعاناة الحقيقية كانت على وشك البدء.

بذور المشكلة الاقتصادية في زيمبابوي

أول بذور المشكلة الاقتصادية في زيمبابوي كانت في مطلع التسعينات، وقتها الرئيس الزيمبابوي “روبرت موجابي” قرر إنه يرفع الظلم الناتج عن الاستعمار الانجليزي، ويرفع إيديهم من على الأراضي الزراعية المملوكة للمزارعين الإنجليز أو ما بين قوسين “الرجال البيض the white man’s”.
وبالفعل تم سحب الأراضي من المزارعين البيض وتم توزيعها بمعرفة الحكومة على الشعب الزيمبابوي؛ لكن الحركة دِه جت بنتيجة عكسية تمامًا على العصب الاقتصادي للبلاد، والسبب في كدا إن الغالبية العظمى من الناس اللي تم تسليمهم الاراضي دِه ماكنش عندهم أي خبرة تذكر في الزراعة، وده اللي خلى الإنتاج الزراعي يقل بشكل ملحوظ ومعاه ارتفاع مهول في أسعار الأغذية، وخلال 10 سنين حصل إنهيار تام للقطاع الزراعي في البلاد.
بالإضافة كمان أن “موجابي” قرر بسحب الأراضي بشكل تعسفي من ملاكها الإنجليز تم مقابلته بعاصفة من الانتقادات الدولية أدت في النهاية لفرض عقوبات على زيمبابوي، واختفت الاستثمارات الأجنبية من البلاد وتدهور الوضع الاقتصادي تمامًا، يعمل إيه بقى عم “موجابي” عشان يحل الأزمة؟، زيه زي أي عيل صغير عنده 7 سنوات قالك “احنا محتاجين فلوس يبقى نطبع فلوس”، وفعلاً أمر البنك المركزي بطبع كميات ضخمة من العملة المحلية للبلاد واللي كان إسمها الدولار الزيمبابوي، خصوصًا إنه في المرحلة دِه كان محتاج كمان يغطي التكاليف الضخمة لمشاركة بلاده في حرب الكونغو التانية.
ومن الواضح إنه ماكنش عنده أي فكرة تذكر عن مشكلة التضخم، شبح التضخم بيظهر مع زيادة عرض النقد في السوق وطبع كميات كبيرة من عملتك المحلية بدون تشغيل العجلة الاقتصادية ورفع المعدل الإنتاجي للبلاد، وبمرور الوقت بتوصل الحالة لتضخم مفرط، بتنخفض القوة الشرائية للعملة وبترتفع أسعار السلع لأرقام مهولة ويبدأ الاقتصاد يتبخر واحدة واحدة، ومن هنا بدأ جنان ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة.

ارتفاع الأسعار وطرح عملات نقدية بأرقام ضخمة

في المرحلة دِه الأسعار كانت بترتفع بشكل غير طبيعي في زيمبابوي، عندنا في مصر مثلاً لما بتحصل زيادة في الأسعار أكتر من مرة على مدار السنة الناس بتبقى هتتجنن، تخيل بقى إن هناك سعر الوجبة في المطعم كان ممكن يتضاعف وانت قاعد بتاكلها، يعني تدخل المطعم وسعر الوجبة حاجة وتخرج وهي سعرها حاجة تانية خالص.
وصلت نسبة التضخم اليومية لـ 98% يعني سعر السلعة كان بيتضاعف في اليوم الواحد، تخيل لو بتجيب إزازة الزيت بـ 20 جنيه تجبها بكرة بـ 80 وبعده بـ160، وياريت جت على كده وبس استمرت نسبة التضخم في الارتفاع من 98% لـ 100% لـ 200%، وفي عز الأزمة ما بين 2008 و 2009 وصلت نسبة التضخم في شهر من الشهور لـ 80 مليار%.
وفي نفس الوقت وصلت نسبة البطالة في البلاد لـ 80% ومش عشان مافيش شغل؛ عشان العاملين نفسهم بيسيبوا أشغالهم لأنها مش مكفياهم ولا حتى مكفية مصاريفهم اليومية من مواصلات أو غيرها، ومع الارتفاع المهول للسلع والخدمات ونقص قيمة العملة المحلية، أصبحت أي سلعة عايز تشتريها بتحتاج منك أرقام خرافية وأكوام من الفلوس.
أبسط السلع الأساسية اللي ممكن تحتاجها بصورة يومية أصبحت تكلفتها بالمليارات، لدرجة إن رغيف العيش لوحده وصل لـ 30 مليار دولار زيمبابوى، تخيل بقى وأنت رايح تشتري 5 أرغفة مثلاً بـ 150 مليار دولار هتشيل الكم ده من الفلوس معاك ازاي؟

في فيلم وثائقي على BBC، رصدوا مواطن زيمبابوي ماشي بعربة يدوية زي اللي بيشيلوا فيها الرمل والطوب في مواقع البناء كده، وكان حاطط فيها أكوام من الفلوس فبيسألوه “هو أنت مش خايف حد يسرقك وأنت ماشي بكل أكوام الفلوس دِه على الملأ كده؟”، وكان رده “أنا خايف يسرقوا العربية مش الفلوس”.
والناس وصل بيها الحال إنهم بطلوا يعدوا الفلوس وبقوا يوزنوها أسهل، ومن هنا فكرت الحكومة بقيادة “موجابي” في فكرة عبقرية يحلوا بيها الأزمة دِه.

أكبر الفئات النقدية في التاريخ

عشان يحلوا مشكلة نقص قيمة العملة قدام السلع والخدمات واحتياج المواطن لأكوام من الفلوس عشان يشتري أبسط السلع، بدأوا يطبعوا أوراق نقدية بقيمة أعلى، في الأول نزلوا بورقة بـ ألف دولار زيمبابوى، بعدها 10 آلاف و100 ألف، ولما لقوا الموضوع مش جايب همه دخلوا في الملايين، ورقة بمليون ورقة بـ 500 مليون، وهوب ورقة بمليار دولار، برضو مش نافع قام نزلوا بالتقيلة بقى، ورقة بتريليون دولار زيمبابوى، وبعدها واحدة من أكبر الفئات النقدية في التاريخ 100 تريليون دولار، وعشان تجمع معايا الرقم فده 1 وقصاده 14 صفر.
عارف بقى الورقة أم 100 تريليون دِه قيمتها كانت كام قدام الدولار؟، 40 سنت يعني أقل من نص دولار واحد، لدرجة إن ورق الطباعة نفسه اللي الفلوس بتطبع عليه قيمته كانت أعلى من قيمة العملة نفسها، بل إن الشركة الألمانية اللي بتمدهم بالمواد اللازمة للطباعة قررت وقف التعامل معاهم بسبب افراطهم في عمليات الطباعة، وده حصل بالرغم إن الحكومة جت في الآخر وبدأت تشيل الأصفار الكتير اللي قدام وبدأوا يسيطروا على حالة فرط الأسفار دي اللي عندهم، وبقت الورقة بعشرة دولار و100 دولار بدل المليارات والتريليونات.
وفي النهاية ماكنش قدامهم حل غير إنهم يستغنوا عن عملتهم المحلية تمامًا ويستخدموا نظام متعدد العملات الأجنبية، وفعلاً في 2009 بدأوا يستخدموا الدولار الأمريكي والراند الجنوب إفريقي، وبدأت معدلات التضخم تنزل شوية بشوية، طيب بعد حوالي 12 سنة من العملية دي، هل الحال انصلح في البلاد ولا لسه؟

سلة خبز إفريقيا

في عام 2017 وبعد 37 سنة في الحكم تم عزل “روبرت موجابي Robert Mugabe” عن حكم زيمبابوي، واللي مسك بعديه هو نائبه السابق وأحد حلفائه “إمرسون منانجاجوا Emmerson Mnangagwa”، وتزامنًا مع عزل الرئيس الوضع حاليًا يعتبر معكوس على المستوى الاقتصادي، يعني خلال الأزمة الطاحنة في 2008 و 2009 كان فيه فلوس بالعبيط بس مكنش فيه سلع أو السلع متاحة لكن سعرها فلكي، وفي 2017 بقى الحالة اتعكست وبقى فيه سلع لكن مفيش فلوس، وبناءًا عليه قرروا إعادة طرح العملة الوطنية من الدولار الزيمبابوي مرة تانية، مع وعود من الحكومة للجماهير إن نسبة التضخم مش هتعلى زي زمان.
علماً إن في 2017 كانت نسبة التضخم وصلت لـ 300% وطبعًا ده رقم ممتاز مقارنة بوقت الأزمة، وبالرغم إن في 2019 نزلت نسبة التضخم لـ 255% إلا إنها مع الظروف الاقتصادية العالمية وانتشار الوبا ارتفعت لـ 622% في عام 2020.

وبالرغم من جهود الحكومة في محاولة الإصلاح الاقتصادي بالبلاد من خلال التركيز على المجال الزراعي والتعدين، إلا إن وضع الناس في البلد ما يسرش لا عدو ولا حبيب، الحكومة أعلنت مؤخرًا إن فيه أكتر من 7 ونص مليون شخص على الأقل أصبحوا تحت خط الفقر في زيمبابوي يعني بتتكلم في نص تعداد السكان.
وحاليًا السكان بيعتصرهم الجوع وعايشين على أمل الإعانات والمنح الدولية من الأغذية وغيرها، وفي منتصف 2020 تقريبًا حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من مواجهة ملايين من الشعب الزيمبابوي لخطر الجوع بسبب الجفاف وعدم الاستقرار الاقتصادي بالتزامن مع الوباء، والمنظمات العالمية دلوقتي بتحاول إنها تجمع تبرعات تساعد في تغطية تكاليف إطعام 4 مليون زيمبابوي، وتحولت زيمبابوي من سلة خبز افريقيا لواحدة من أفقر شعوب القارة على الإطلاق.